مقال
بِسْمِ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أجمَعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فما حكم الموالاة بين الصلاتين، إذ قد يتأخرون مدة تعتبر فصلاً بين الصلاتين ويجمعون فما الحكم في ذلك ؟.
أقول وبالله التوفيق:
الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، ويقصد به أن تكون الصلاتان متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير، فِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الموالاة ليست شرطاً في جمع التقديم ولا في جمع التأخير؛ لأن معنى الجمع اجتماع الصلاتين في وقت واحد, ولا دليل من السنة على اشتراط الموالاة، وهي رواية عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال به السعدي والبسام وغيرهما وقواه العثيمين- رَحِمَهُمْ اللَّهُ-.
الثَّانِي: الموالاة شرط في الجمع بين الصلاتين في التقديم والتأخير؛ لأن معنى الجمع هو الضم والمقارنة, وهو قول بعض العلماء .
الثَّالِثُ: تشترط الموالاة في جمع التقديم ولا تشترط في جمع التأخير، وهو قول الجمهور؛ فلا يفرّق بين الصلاتين المجموعتين إلا بقدر الإقامة للثانية ووضوء خفيف. وهي الرواية المشهورة في مذهب الحنابلة.
والراجح وبالله التوفيق ومنه التسديد القول الْأَوَّلُ:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ-: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بِحَالٍ لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ يُسْقِطُ مَقْصُودَ الرُّخْصَةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الْجَمْعَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَيُحْرِمَ بِالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا كَمَا تَأَوَّلَ جَمْعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ وَمُرَاعَاةُ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا ؛ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي الْمَغْرِبِ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَلَّا يُطِيلَهَا وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْإِطَالَةِ تُشْرَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطِيلَهَا أَوْ أَنْ يَنْتَظِرَ أَحَدًا لِيُحَصِّلْ الرُّكُوعَ وَالْجَمَاعَةَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ وَيَجْتَهِدُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَاعَاةَ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ يُشْغِلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالْجَمْعُ شُرِعَ رُخْصَةً وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَكَيْفَ لَا يُشْرَعُ إلَّا مَعَ حَرَجٍ شَدِيدٍ وَمَعَ مَا يَنْقُضُ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ مِنْ الْأُولَى إلَّا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْخَاصِّ وَكَيْفَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إنَّمَا يُعْرَفُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ بِالظِّلِّ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ الظِّلِّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آلَاتٌ حِسَابِيَّةٌ يَعْرِفُ بِهَا الْوَقْتَ وَلَا مُوَقِّتٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْآلَاتِ الْحِسَابِيَّةِ وَالْمَغْرِبُ إنَّمَا يُعْرَفُ آخِرُ وَقْتِهَا بِمَغِيبِ الشَّفَقِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى جِهَةِ الْغَرْبِ هَلْ غَرَبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَبْيَضُ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . مجموع الفتاوى (24/ 54) ط. دار الوفاء.
وَقَالَ-رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَوْضِعٍ آخَر: وَلِهَذَا كَانَ الْجَمْعُ الْمَشْرُوعُ مَعَ الْمَطَرِ هُوَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ بِالنَّاسِ الْمَغْرِب إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ بَلْ هَذَا حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّاسِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يُحْرَجَ الْمُسْلِمُونَ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ التَّأْخِيرُ وَالتَّقْدِيمُ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَهُمَا مُقْتَرِنَتَيْنِ ؛ بَلْ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَيُقَدِّمَ الْعَصْرَ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ الْوَاحِدَةَ وَيَنْتَظِرُونَ الْأُخْرَى لَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَهَابٍ إلَى الْبُيُوتِ ثُمَّ رُجُوعٍ وَكَذَلِكَ جَوَازُ الْجَمْعِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . مجموع الفتاوى (25/ 230) ط. دار الوفاء.
وقال العلامة ابن عثيمين-رَحِمَهُ اللهُ-: ولو صلى تطوعاً غير الراتبة فمن باب أولى؛ لأنه إذا بطل بالراتبة التابعة للمجموعة فما كان أجنبياً عنها، وليس لها فهو من باب أولى.
واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية-رَحِمَهُ اللهُ-: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت أي: ضم وقت الثانية للأولى بحيث يكون الوقتان وقتاً واحداً عند العذر، وليس ضم الفعل، وعلى رأي شيخ الإِسلام: لو أن الرجل صلّى الظهر وهو مسافر بدون أن ينوي الجمع، ولو كان مقيماً ثم بدا له أن يسافر قبل العصر فإنه يجمع إذا سافر ولو طال الفصل.
وقد ذكر شيخ الإِسلام رحمه الله نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي، والأحوط أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له قوة. الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 399)ط. دار ابن الجوزي.
وجاء في الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة (2/ 354)ط. المكتبة الإسلامية (عمان - الأردن)، دار ابن حزم (بيروت - لبنان):
هل يشترط النية والموالاة في الجمع والقصر؟
لا دليل على ذلك من باب التيسيرِ ومراعاةِ عدم إِسقاط مقصود الرخصة.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية-رَحِمَهُ اللهُ- (في "الفتاوى" (24/ 50 - 54): عن عدم اشتراط النية في الجمع والقصر: "وهو قول الجمهور من العلماء، وقال: والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا كان يصلّي بأصحابه جمعاً وقصراً لم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إِلى مكة يصلّي ركعتين من غير جمع، ثمَّ صلّى بهم الظهر بعرفة، ولم يُعلِمْهم أنّه يريد أن يصلّي العصر بعدها، ثمَّ صلّى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم، وكذلك لمّا خرج من المدينة صلّى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر. وأمّا الموالاة بين الصلاتين فقد قال: والصحيح أنّه لا تشترط الموالاة بحال؛ لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية، فإِنّه ليس لذلك حدٌّ في الشرع، ولأنّ مراعاة ذلك يُسقِط مقصود الرخصة".
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (39/244): ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ - جَمْعَ تَقْدِيمٍ - وَإِنْ طَال بَيْنَهُمَا الْفَصْل مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الأُْولَى مِنْهُمَا. (المجموع 4 / 476).
هذا والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل