مقال
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،،
فمن الناس من يقول: إنه لا سمع ولا طاعة لهؤلاء الحكام بحجة أن الأحاديث الواردة في السمع والطاعة إنما هي في الإمامة العامة العظمى لا الخاصة ولا شك أن هذا قول باطل مخالف لإجماع أهل العلم قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-:" الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم".نقلاً من (الدرر السنية (7/239)، و(معاملة الحكام :24).
قُلْتُ: ومن مسائل البيعة والإمامة المثارة فِي زماننا، وبِها أيضًا تتكشف لك دعوة الحزبيين، هِيَ مسألة تعدد الأئمة والحكام، بِحيث يكون لكل بلد أو قُطر حاكم، هل تصح إمامته، وتَجب البيعة له ؟
قَالَ العلامة الأمير الصنعاني-رحمه الله-: فِي سبل السلام (2/374) فِي شرح حديث أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَخَرَجَ مِنْ الطَّاعَة ....) الحديث : " قوله مِنْ الطَّاعَة ، أي: طاعة الخليفة الَّذِي وقع الاجتماع عليه، وَكَان المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لَم يُجمع الناس عَلَى خليفة فِي جَميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم عَلَى أمورهم، إذ لو حُمِل الحديث عَلَى خليفة اجتمعَ عليه أهل الإسلام لقلَّت فائدته". أهـ.
قُلْتُ: وَأَمَّا الإجماع المنقول عَلَى عدم جواز نصب إمامين أو أكثر للمسلمين فِي وقت واحد، فهذا مع الاختيار، فقد جاء فِي "الأشباه والنظائر"(ص527): ( لا يَجوز تعدد الإمام فِي عصر واحد ).
وَقَالَ مصطفى بن سعد بن عبدة الرحيباني-رحمه الله- فِي " مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى فِي شَرْحِ غَايَةِ الْمُنْتَهَى " (6/263):" لا يَجوز تعدد الإمام، لِما قد يترتب عليه من التنافر المفضي إلى التنازع والشقاق ووقوع الاختلاف فِي بعض الأطراف، وهو مناف لاستقامة الحال". أهـ.
وفِي الموسوعة الفقهية (21/43):( وقد ذهبَ جمهور الفقهاء إلى أنه لا يَجوز كون إمامين فِي العالم فِي وقت واحد، ولا يَجوز إلا إمام واحد، ودليله قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :" إذا بويع لِخليفتين فاقتلوا الآخر منهما "؛ ولأن فِي تعدد الدول الإسلامية مظنة للنِّزَاع والفرقة، وقد نَهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن ذَلِكَ بقوله:{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وفِي أحد أوجه التفسير أن المراد بالريح فِي الآية الكريمة هُوَ الدولة، قاله أبو عبيد). أهـ.
وفِي حاشية الدسوقي عَلَى الشرح الكبير (4/134-135):( أشعَرَ ما ذكره المصنِّف من جواز تعدد القاضي بِمنع تعدد الإمام الأعظم، وهو كذلك ولو تباعدت الأقطار جدًّا لإمكان النيابة، وقيل بالجواز إذ كَانَ لا يُمكن النيابة لتباعد الأقطار جدًّا ). أهـ.
قُلْتُ: فهذا الكلام من العلماء يُحمل عَلَى إحداث بيعة لخليفتين أو إمامين فِي وقت واحد باختيار أهل الحل والعقد، أو أن يوجد خليفة له الهيمنة والسيطرة عَلَى كل بلاد الإسلام، ثُمَّ يأتي آخر فينازعه الإمامة فِي إحدى بقاع الدولة، ويتم البيعة له، فهذا الَّذِي ينطبقُ عليه الحديث:( فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا ). أمَّا الحال الَّذِي آلت إليه بلاد الإسلام من انفراد كل حاكم بقطر معين، لا يكون له سلطان عَلَى القطر الَّذِي يليه، فهذا لا يَتَنَزل عليه الحديث، ولا كلام أهل العلم فِي عدم شرعية وجود إمامين، وهذا لا يعني الرضا بِهذه الحال من التفرق، وبهذا التقطيع لبلاد الإسلام إلى دويلات صغيرة، لكن الكلام عَلَى صحة إمامة كل حاكم فِي كل دولة من هذه الدويلات، وصحة انعقاد البيعة له، وعدم جواز الخروج عليه.
وقد قَالَ الماوردي-رحمه الله- فِي " أدب الدُّنْيَا والدين " (ص136):( الإمام مندوب للمصالِح، وإذا كَانَ اثنين فِي بلدين أو ناحيتين كَانَ كل واحد منهما أقوم بِما فِي يديه، وأضبطُ لِما يليه؛ ولأنه لَمَّا جاز بعثة نبيين فِي عصر واحد، ولَم يؤد ذَلِكَ إلى إبطال النبوة، كانت الإمامة أولى، ولا يؤدي ذَلِكَ إلى إبطال الإمامة ). أهـ.
وَقَالَ الإمام الشوكاني-رحمه الله- : فِي "السيل الجرار" (4/481-482): ( إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به، كما كَانَ فِي أيام الصحابة والتابعين، وتابعيهم فحكم الشرع فِي الثاني الَّذِي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يُقتل إذا لَم يتب عن المنازعة، وأمَّا إذا بايع كل واحد منهما جماعة فِي وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يَجب عَلَى أهل الحل والعقد أن يأخذوا عَلَى أيديهما حتَّى يُجعل الأمر فِي أحدهما، فإن استمر عَلَى الخلاف كَانَ عَلَى أهل الحلِّ والعقد أن يَختاروا منهما من هُوَ أصلح للمسلمين، ولا تَخفى وجوه الترجيح عَلَى المتأهلين لذلك .
وَأَمَّا بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته، وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار فِي كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نَهي فِي قُطر الآخر، وأقطاره الَّتِي رجعت إلَى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويَجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له عَلَى أهل القطر الَّذِي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه فِي القطر الَّذِي قد ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله كَانَ الحكم فيه أن يقتل إذا لَم يتب، ولا تَجب عَلَى أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بِما لا يُطاق.
وهذا معلوم لكل من له إطلاع عَلَى أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بِمن له الولاية فِي أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بِمن له الولاية فِي اليمن، وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لِما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يُقال فِي مُخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية فِي أول الإسلام وما هِيَ عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يُخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها ).
ثُمَّ قَالَ-رحمه الله-:(ص383): ( ولكن عَلَى كل مُسْلِم فِي ذَلِكَ القطر أن يقبل إمامته بعد وقوع البيعة له، ويُطيعه فِي الطاعة، ويعصيه فِي المعصية، ولا يُنازعه، ولا ينصر من ينازعه، فإن لَم يفعل هكذا فقد خالفَ ما تواتر من الأدلة، وصار باغيًا ذاهب العدالة مُخالفًا لِما شرعه الله، ووصَّى به عباده فِي كتابه من طاعة أولي الأمر، ومُخالفًا لِما صَحَّ عن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إيجاب الطاعة، وتَحريم المخالفة ). أهـ.
قُلْتُ:وهذا كلام موزون بِميزان السَّلَف خارج من مشكاة النبوة، وهكذا حكم الشوكاني : عَلَى من ينازع الحاكم فِي بلده أو ينصر من يُنازعه بأنه باغٍ ذاهب العدالة.
ومن هذا العرض الوافي تدرك ضلالة هذه العبارة الَّتِي تفوَّه بِها أحد المشتغلين بعلم الحديث فِي هذه السنوات -مِمَّن ينسب نفسه إلى الألباني- وهي قوله: " لا يوجد سلطان شرعي في الأرض اليوم"( قُلْتُ: قال ابن أبي زمنين في "أصول السنة" (ص 275): " ومن قول أهل السنة أن السلطان ظل الله في الأرض، وأنه من لَم ير على نفسه سلطانًا برًّا كان أو فاجرًا فهو على خلاف السنة ")، ومن قبل قالها سيد قطب.
وَقَالَ العلامة ابن عثيمين-رحمه الله-: فِي الشرح الممتع (8/12):( الإمام هُوَ ولي الأمر الأعلى فِي الدولة، ولا يُشترط أن يكون إمامًا عامًّا للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، وَالْنَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:(اسمعوا وأطيعوا ولو تأمرَّ عليكم عبدٌ حبشي). فإذا تأمر إنسان عَلَى جهة ما صار بِمنْزلة الإمام العام، وصار قوله نافذًا، وأمره مُطاعًا، ومن عهد أمير المؤمنين عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير فِي الحجاز، وابن مروان فِي الشام، والمختار بن عبيد وغيره فِي العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لِمن تأمَّر عَلَى ناحيتهم، وإن لَم تكن له الخلافة العامة، وبِهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد، نسأل الله العافية، ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟ أم يريدون أن يُقال كل إنسان أمير نفسه؟ هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يَموتون ميتة جاهلية؛ لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة عَلَى أن من استولى عَلَى ناحية من النواحي صار له الكلمة العليا فيها فهو إمام فيها، وقد نصَّ عَلَى ذَلِكَ العلماء مثل صاحب سبل السلام، وَقَالَ: إن هذا لا يُمكن الآن تَحقيقه، وهذا هُوَ الواقع الآن؛ فالبلاد الَّتِي فِي ناحية واحدة تَجدهم يَجعلونَ انتخابات، ويَحصل صراع عَلَى السلطة، ورشاوي وبيع الذمم، إلى غير ذَلِكَ، فإذا كَانَ أهل البلد الواحد لا يستطيعون أن يولوا عليهم واحدًا إلا بِمثل هذه الانتخابات المزيفة فكيف بالمسلمين عمومًا ؟ هذا لا يُمكن!!!). أهـ.
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل