بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "سورة"آل عمران"الآية(102)" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"سورة"النساء"الآية(1)" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" سورة"الأحزاب"الآية (70-71) ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث: كتاب الله، وخير الهدي: هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ،،،
أما بعد ،،،
س1: أذكر متن الحديث السابع والثلاثين من الأربعين النووية ؟
ج1: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ:« إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ : رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ . ( 1).
هذا الحديث خرَّجاه ( 2) من رواية الجعد أبي عثمان : حدَّثنا أبو رجاءٍ العُطاردي ، عن ابنِ عبَّاس . وفي رواية لمسلم ( 3) زيادةٌ في آخر الحديث ، وهي : «وَمَحَاهَا اللهُ وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ».
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يَقُولُ اللَّهُ : إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ » ، وهذا لفظ البخاري ( 4) ، وفي رواية لمسلم ( 5) : " قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا " وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " قَالَتِ الْملَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " وَقَالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ».
وفي " الصحيحين " ( 6) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي »، وفي " صحيح مسلم " ( 7) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ ». وفي المعنى أحاديث أخر متعددة .
س2: أذكر شرح الحديث ؟
ج2: تضمنت هذه النُّصوص كتابةَ الحسنات ، والسيِّئات ، والهمّ بالحسنةِ والسيِّئة ، فهذه أربعة أنواع :
النوع الأول : عملُ الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرةٍ ، فمُضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازمٌ لكلِّ الحسنات ، وقد دلَّ عليه قوله تعالى:(( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ))( 8) .
وأما زيادةُ المضاعفةِ على العشر لمن شاء الله أن يُضاعف له ، فدلَّ عليه قوله تعالى : (( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) (9 ) ، فدلَّت هذه الآيةُ على أنّ النَّفقة في سبيل الله تُضاعف بسبعمائة ضعف .
النوع الثاني : عمل السيِّئات ، فتكتب السيِّئةُ بمثلها مِنْ غير مضاعفةٍ ، كما قال تعالى : (( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )) (10 ) .
قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً » إشارةٌ إلى أنّها غيرُ مضاعفة ، ما صرَّح به في حديث آخر ، لكن السَّيِّئة تعظُمُ أحياناً بشرف الزَّمان ، أو المكان ، كما قال تعالى : (( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )) ( 11) . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : (( فَلا تَظلِموا فِيهِنَّ أنفُسَكُم )) ( 12) : في كلِّهنَّ ، ثم اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهُر ، فجعلهنَّ حرماً ، وعظم حُرماتهنَّ ، وجعل الذَّنبَ فيهنَّ أعظمَ ، والعمل الصالح والأجر أعظم ( 13) .
وقد تُضاعَفُ السيِّئاتُ بشرف فاعلها ، وقوَّة معرفته بالله ، وقُربِه منه ، فإنَّ مَنْ عَصى السُّلطان على بِساطِه أعظمُ جُرماً مِمَّن عصاه على بُعد ، ولهذا توعَّد الله خاصَّةَ عباده على المعصية بمضاعَفةِ الجزاء ، وإن كان قد عصمَهم منها ، ليبيِّنَ لهم فضله عليهم بِعصمَتهم مِنْ ذلك ، كما قال تعالى : (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ )) ( 14) .
وقال تعالى : (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ )) ( 15) .
النوع الثالث : الهمُّ بالحسنات ، فتكتب حسنة كاملة ، وإنْ لم يعملها ، كما في حديث ابن عباس وغيره ، وفي حديث أبي هريرة الذي خرَّجه مسلمٌ (16 ) كما تقدم : (( إذا تحدَّث عبدي بأن يعملَ حسنةً ، فأنا أكتُبها له حسنةً )) ، والظَّاهِرُ أن المرادَ بالتَّحدُّث : حديث النفس ، وهو الهمُّ ، وفي حديث خريم بن فاتك : (( مَن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها )) فعَلِمَ الله أنَّه قد أشعرها قلبَه ، وحَرَصَ عليها ، كتبت له حسنة ، وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا : هو العزمُ المصمّم الذي يُوجَدُ معه الحرصُ على العمل ، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر ، ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولا تصميم .
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ ، تأكَّدَ الجزاءُ ، والتحقَ صاحبُه بالعامل ، كما روى أَبُو كَبْشَةَ الأَنْمَارِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ : « إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِى مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِى مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِى مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ». ( 17) ، وقد حمل قوله : (( فهما في الأجر سواءٌ )) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : (( فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ )) ( 18) . قال ابن عباس (19 ) وغيره ( 20): القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار .
النوع الرابع : الهمُّ بالسَّيِّئات من غير عملٍ لها ، ففي حديث ابن عباس : أنَّها تُكتب حسنةً كاملةً ، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما (21 ) : أنَّها تُكتَبُ حسنةً ، وفي حديث أبي هريرة قال : (( إنَّما تركها مِن جرَّاي )) يعني : من أجلي . وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ مَنْ قَدَرَ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، فتركه لله تعالى ، وهذا لا رَيبَ في أنَّه يُكتَبُ له بذلك حسنة ؛ لأنَّ تركه للمعصية بهذا المقصد عملٌ صالحٌ .
فأمَّا إن همَّ بمعصية ، ثم ترك عملها خوفاً من المخلوقين ، أو مراءاةً لهم ، فقد قيل : إنَّه يُعاقَبُ على تركها بهذه النيَّة ؛ لأنَّ تقديم خوفِ المخلوقين على خوف الله محرَّم . وكذلك قصدُ الرِّياءِ للمخلوقين محرَّم ، فإذا اقترنَ به تركُ المعصية لأجله ، عُوقِبَ على هذا الترك .
وأمَّا إنْ سعى في حُصولها بما أمكنه ، ثم حالَ بينه وبينها القدرُ ، فقد ذكر جماعةٌ أنَّه يُعاقَب عليها حينئذٍ لقول النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها ، ما لم تكلَّمْ به أو تعمل )) (22 ) ومن سعى في حُصول المعصية جَهدَه ، ثمَّ عجز عنها ، فقد عَمِل بها ، وكذلك قولُ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّار )) ، قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ؟! قال : (( إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه )) ( 23) . وقوله : (( ما لم تكلَّم به ، أو تعمل )) يدلُّ على أنَّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه إنَّه يُعاقَبُ على الهمِّ حينئذٍ ؛ لأنَّه قد عَمِلَ بجوارحِه معصيةً ، وهو التَّكلُّمُ باللِّسان ، ويدلُّ على ذلك حديث الذي قال : (( لو أنَّ لي مالاً ، لعملتُ فيه ما عَمِلَ فلان )) يعني : الذي يعصي الله في ماله.
وأمّا إن انفسخت نِيَّتُه ، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه ، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، أم لا ؟ هذا على قسمين :
أحدهما : أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطراً خطرَ ، ولم يُساكِنهُ صاحبه ، ولم يعقِدْ قلبَه عليه ، بل كرهه ، ونَفَر منه ، فهذا معفوٌّ عنه ، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها ، فقال : (( ذاك صريحُ الإيمان )) ( 24) .
القسم الثاني : العزائم المصممة التي تقع في النفوس ، وتدوم ، ويساكنُها صاحبُها ، فهذا أيضاً نوعان :
أحدهما : ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِ القلوب ، كالشَّكِّ في الوحدانية ، أو النبوَّة ، أو البعث ، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق ، أو اعتقاد تكذيب ذلك ، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ ، ويصيرُ بذلك كافراً ومنافقاً . وقد رُوي عن ابن عباس أنَّه حمل قوله تعالى : (( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ))(25 ) ، على مثل هذا ( 26) . وروي عنه حملُها على كتمان الشَّهادة لِقوله تعالى : (( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ )) ( 27) .
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب ، كمحبة ما يُبغضهُ الله ، وبغضِ ما يحبُّه الله ، والكبرِ ، والعُجبِ ، والحَسدِ ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير موجِب ، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أنَّه قال في سُوء الظَّنِّ إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ ، فهو معفوٌّ عنه . وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد ، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدُه الإنسانُ ، ولا يمكنهُ دفعُه ، فهو يكرهُه ويدفعُه عن نفسه ، فلا يندفعُ إلاَّ على ما يساكِنُه ، ويستروِحُ إليه ، ويُعيدُ حديثَ نفسه به ويُبديه .
والنوع الثاني : ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب ، بل كان من أعمالِ الجوارحِ ، كالزِّنى ، والسَّرقة ، وشُرب الخمرِ ، والقتلِ ، والقذفِ ، ونحو ذلك ، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك ، والعزم عليه ، ولم يَظهرْ له أثرٌ في الخارج أصلاً . فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء : أحدهما : يؤاخذ به ، قال ابنُ المبارك : سألتُ سفيان الثوريَّ : أيؤاخذُ العبدُ بالهمَّةِ ؟ فقال : إذا كانت عزماً أُوخِذَ (28 ) . ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم ، واستدلوا له بنحو قوله -عَزَّ وَجَلَّ- : (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )) ( 29)، وقوله:(( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )) ( 30) ، وبنحو قول النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( الإثمُ ما حاكَ في صدركَ ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه النَّاسُ )) ( 31) ، وحملوا قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( إن الله تجاوزَ لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها ، ما لم تكلَّم به أو تعمل )) على الخَطَراتِ ، وقالوا : ما ساكنه العبدُ ، وعقد قلبه عليه ، فهو مِنْ كسبه وعملِه ، فلا يكونُ معفوّاً عنه ، ومِنْ هؤلاء من قال : إنَّه يُعاقَبُ عليه في الدُّنيا بالهموم والغموم ، رُويَ ذلك عن عائشة مرفوعاً وموقوفاً ، وفي صحَّته نظر .
وقيل : بل يُحاسَبُ العبدُ به يومَ القيامة ، فيقفُه الله عليه ، ثمَّ يعفو عنه ، ولا يعاقبه به ، فتكونُ عقوبته المحاسبة ، وهذا مرويٌّ عن ابن عبّاس ، والربيع بن أنس ، وهو اختيار ابن جرير ، واحتجَّ له بحديث ابن عمر (32 ) في النجوى ، وذاك ليس فيه عمومٌ ، وأيضاً ، فإنَّه واردٌ في الذُّنوب المستورة في الدُّنيا ، لا في وساوس الصُّدور .
والقول الثاني : لا يُؤاخَذُ بمجرَّد النية مطلقاً ، ونُسِبَ ذلك إلى نصِّ الشافعيِّ ، وهو قولُ ابن حامدٍ من أصحابنا عملاً بالعمومات . وروى العَوْفيُّ عن ابنِ عباس ما يدلُّ على مثل هذا القول .
وفيه قول ثالث : أنَّه لا يُؤاخَذُ بالهمِّ بالمعصية إلاّ بأنْ يهِمَّ بارتكابها في الحَرَم ، كما روى السُّديُّ ، عن مرَّةَ ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : ما من عبدٍ يهِمُّ بخطيئةٍ ، فلم يَعمَلها ، فتكتب عليه ، ولو همَّ بقتل إنسان عندَ البيت ، وهو بِعَدَنِ أَبْيَنَ ، أذاقَهُ الله من عذابٍ أليم ، وقرأ عبدُ الله : (( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )) ( 33). خرَّجه الإمام أحمد ( 34) وغيره .
وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم : (( أو محاها الله )) يعني : أنَّ عمل السيِّئة : إمَّا أنْ تُكتَب لعاملها سيِّئة واحدة ، أو يمحوها الله بما شاءَ مِنَ الأسباب ، كالتوبة والاستغفار ، وعمل الحسنات . وقد سبق الكلامُ على ما تُمحى به السيِّئات في شرح حديث أبي ذر:(( اتَّقِ الله حيثُما كنت ، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها )).
وقوله بعد ذلك :(( ولا يَهلِكُ على الله إلاّ هالكٌ )) : يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله ، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات ، والتَّجاوز عن السيِّئات ، لا يَهلِكُ على الله إلاّ من هلك ، وألقى بيده إلى التَّهلُكة ، وتجرَّأ على السيِّئات ، ورَغِبَ عن الحسنات ، وأعرض عنها .
س3: أذكر فوائد هذا الحديث ؟
ج3: من فوائد هذا الحديث :
(1) إثبات كتابة الحسنات والسيئات وقوعاً وثواباً وعقاباً، لقوله إن الله كتب الحسنات والسيئات.
(2) أن الحسنات الواقعة والسيئات الواقعة قد فرِغ منها وكتبت واستقرت.
(3) إثبات أفعال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لقوله: " كَتَبَ " وسواء قلنا إنه أمر بأن يكتب ، أو كتب بنفسه -عَزَّ وَجَلَّ-.
(4) عناية الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالخلق حيث كتب حسناتهم وسيئاتهم قدراً وشرعاً.
(5) أن التفصيل بعد الإجمال من البلاغة ، يعني أن تأتي بقول مجمل ثم تفصله ، لأنه إذا أتى القول مجملاً تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل ، فيأتي التفصيل والبيان وارداً على نفس مشرئبة مستعدة ، فيقع منها موقعاً يكون فيه ثبات الحكم .
(6) فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ-ولطفه وإحسانه أن من هم بالحسنة ولم يعملها كتبها الله حسنة ، والمراد بالهم : العزم ، لا مجرد حديث النفس ، لأن الله تعالى عفا عن حديث النفس لا للإنسان ولا عليه .
(7) مضاعفة الحسنات ، وأن الأصل أن الحسنة بعشر أمثالها ، ولكن قد تزيد إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة .
ومضاعفة ثواب الحسنات تكون بأمور ، منها:
الأول : الزمان ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3).
الثاني : باعتبار المكان، ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:"صَلاَةٌّ في مَسجِدي هَذا أَفضَلُ مِنْ أَلفِ صَلاَة فيمَا سِواهُ إِلاَّ مَسجِدِ الكَعبَة".
الثالث : باعتبار العمل فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي "مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مَمَّا افتَرَضْتُ عَلَيْهِ". فالعمل الواجب أفضل من التطوع .
الرابع : باعتبار العامل قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخالد بن الوليد وقد وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما- ما وقع " لاَ تَسِبوا أَصحَابي ، فوالذي نَفسي بيَدِهِ لَو أَنفَقَ أَحَدُكُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مَد أَحَدِكُم ولاَ نصيفَهُ ".
وهناك وجوه أخرى في المفاضلة تظهر للمتأمل ومتدبر الأدلة.
أيضاً يتفاضل العمل بالإخلاص ، فلدينا ثلاثة رجال : رجل نوى بالعمل امتثال أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- والتقرب إليه،وآخر نوى بالعمل أنه يؤدي واجباً ، وقد يكون كالعادة ، والثالث نوى شيئاً من الرياء أو شيئاً من الدنيا.
فالأكمل فيهم : الأول ، ولهذا ينبغي لنا ونحن نقوم بالعبادة أن نستحضر أمر الله بها ، ثم نستحضر متابعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها ، حتى يتحقق لنا الإخلاص والمتابعة.
(8) أن من هم بالسيئة ولم يعملها كتبها الله حسنة كاملة ، وقد مر التفصيل في ذلك أثناء الشرح ، فإن هم بها وعملها كتبها الله سيئة واحدة . ولكن السيئات منها الكبائر والصغائر ، كما أن الحسنات منها واجبات وتطوعات ولكلٍ منهما الحكم والثواب المناسب ، والله الموفق.
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) أخرجه : البخاري 8/128 ( 6491 ) ، ومسلم 1/83 ( 131 ) ( 207 ) و( 208 ) .
( 2) صحيح البخاري 8/128 ( 6491 ) ، وصحيح مسلم 1/83 ( 131 ) ( 207 ) .
( 3) صحيح مسلم 1/83 ( 131 ) ( 208 ) .
( 4) صحيح البخاري 9/177 ( 7501 ) .
( 5) صحيح مسلم 1/81 ( 129 ) ( 205 ) .
( 6) صحيح البخاري 2/34 ( 1904 ) و9/175 ( 7492 ) ، وصحيح مسلم 3/157 – 158 ( 1151 ) ( 161 ) – ( 164 ) .
( 7) صحيح مسلم 8/67 ( 2687 ) ( 22 ) .
( 8) الأنعام : 160 .
( 9) البقرة : 261 .
( 10) الأنعام : 160 .
( 11) التوبة : 36 .
( 12) التوبة : 36 .
( 13) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 12972 ) و( 12973 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 6/1791 ( 10000 ) .
( 14) الإسراء : 74 – 75 .
( 15) الأحزاب : 30 – 31 .
( 16) سبق تخريجه .
( 17) صحيح: أخرجه : أحمد 4/230 – 231 ، وابن ماجه ( 4228 ) ، والترمذي ( 2325 ) . انظر حديث رقم : 3024 في صحيح الجامع .
( 18) النساء : 95 – 96 .
( 19) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 8105 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/1043 ( 5847 ) .
( 20) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 8108 ) عن السري .
( 21) سبق تخريجه .
( 22) أخرجه : البخاري 3/190 ( 2528 ) و8/168 ( 6664 ) ، ومسلم 1/81 – 82 ( 127 ) ( 201 ) و( 202 ) عن أبي هريرة ، به .
( 23) أخرجه : البخاري 1/14 - 15 ( 31 ) و9/5 ( 6875 ) و9/64 ( 7083) ، ومسلم 8/169 - 170 ( 2888 ) ( 14) - ( 16) عن أبي بكرة ، به .
( 24) أخرجه : مسلم 1/83 ( 132 ) ( 209 ) و( 210 ) ، وأبو داود ( 5111 ) ، وابن حبان ( 145 ) و( 146 ) و( 148 ) عن أبي هريرة ، به .
( 25) البقرة : 284 .
( 26) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5083 ) .
( 27) البقرة : 283 .
( 28) ذكره ابن حجر في " فتح الباري " 11/398 .
( 29) البقرة : 235 .
( 30) البقرة : 225 .
( 31) سبق تخريجه في الحديث السابع والعشرين ، من حديث النواس بن سمعان .
( 32) أخرجه : البخاري 3/168 ( 2441 ) ، ومسلم 8/105 ( 2768 ) ( 52 ) ، عن ابن عمر ، به . والنجوى: هي ما تكلم به المرءُ يسمع نفسه لا يسمعُ غيره ، أو يسمع غيره سراً دون من يليه . وقال الراغب : ناجيته إذا ساررته ، وأصله أنْ تخلو في نجوه من الأرض ، انظر : فتح الباري 10/599 .
( 33) الحج : 25 .
( 34) أخرجه : أحمد 1/428 و451 ، وأخرجه : الحاكم 2/388 مرفوعاً ، ولا يصح .