جديدالموقع

اسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ




كتبه
أبو مريم / أيمن بن دياب بن محمود العابديني
غَفَرَ اللَّـهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،،
     فيا أيها القارئ الكريم لقد يسر الله لعباده سبل الخيرات، وفتح لهم أبواب الرحمات، وأنعم عليهم بمواسم البر واكتساب الأجور والمثوبات، ورتب الأجر الجزيل على الأعمال اليسيرات. تكرماً منه وفضلاً على عباده المؤمنين والمؤمنات؛ ليستدركوا ما فاتهم ويكفروا عن سيئاتهم، ومن مواسم الخيرات المكفرات شهر الله المحرم موسم من مواسم الطاعات فقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ونحن في هذه الأيام نودِّع عاماً ماضياً شهيداً ، ونستقبل عاماً مقبلاً جديداً ، فعلينا أن نحاسب أنفسنا ، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات ، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه ، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل ، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات .
ومما يؤسف عليه أن كثيراً من الناس إذا بدأ العام يَعِدُ نفسه بالجد والعزيمة الصادقة لإصلاح حاله ، ثم يمضي عليه اليوم بعد الأيام والشهر بعد الشهور ، وينقضي العام وحاله لم يتغير ، فلم يزدد من الخيرات ولم يتب من السيئات ، وهذه علامة الخيبة والخسران .
الاعتبار بتقلب الليل والنهار:

قال تعالى : ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ [ [آل عمران/190] وقال تعالى : ] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [ [يونس/6] وقال تعالى : ] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ[ [النور/44] .

     في هذه الآيات الكريمات يخبر الله تعالى عن الآيات الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته ، وتمام حكمته ورحمته ، ومن ذلك اختلاف الليل والنهار ، وذلك بتعاقبهما ، واختلافهما بالطول والقصر ، والحر والبرد والتوسط ، وما في ذلك من المصالح العظيمة لكل ما على الأرض ، وكل ذلك من نعم الله تعالى ورحمته بخلقه ، الذي لا يدركه إلا أصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة ، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، ويدركون ما في تعاقب الشهور والأعوام ، وتوالي الليالي والأيام .
والله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ، ومراحل للآجال ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر ، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات ، وتنشيطهم على الطاعات ، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل ، قال تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً[ [الفرقان/62] .
     وينبغي للمؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام ، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيِّبان الصغار، ويفنيان الكبار، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .
     فالسعيد - والله - من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته ، واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف .
الحث على قِصَرِ الأمل في الدنيا:
     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِى فَقَالَ:« كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ ح (6416).
الحديث دليل على وجوب اغتنام الأوقات ، والحث على قِصَرِ الأمل ، وتقديم التوبة والاستعداد للموت ، وهذا الحديث من أبلغ الكلام في التذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا ، وذلك أن الدنيا فانية ، مهما طال عمر الإنسان فيها ، فهي دار ممر لا دار مقر.
ولقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - موعظة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إدراكاً علمياً وعملياً ، وأخذ منه هذه الوصايا الثلاث العظيمة :
الأولى : « إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ »  ومعنى ذلك : حث المؤمن على قِصَرِ الأمل في هذه الحياة ، وأنه ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لا ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله مدركه قبل  ذلك .
الثانية : « وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم أوقات الصحة وسلامة البدن من العلل ، وذلك بفعل الخير والإكثار من الطاعات ، قبل أن يحول بينه وبينها السُّقْمُ ، فيعجز عن الصيام والقيام وسائر الأعمال ، إذا اعتراه مرض أو علة أو كِبَرٌ .
الثالثة : « وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم زمن الحياة وساعات العمر بتقديم الزاد ، ولا يفرط حتى يدركه الموت ، ويحول بينه وبين الأعمال الصالحة .
وقد ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ ح (6412).
عَنِه - رضى الله عنهما – قَالَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظهُ : « اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس ، شَبَابك قَبْل هَرَمك ، وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك ، وَغِنَاك قَبْل فَقْرك ، وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك ، وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك» صحيح الجامع ح (1077).

فضل شهر الله المحرم :
     عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:« أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ » وفي رواية «الصَّلاَةُ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (1163).
     الحديث دليل على فضل صيام شهر الله المحرم ، وأن صيامه يلي فضل شهر رمضان في الأفضلية ، وفضل الصيام فيه جاء من فضل أوقاته وتعظيم الأجر فيه ، لأن الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى .
     وشهر الله المحرم هو الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية ، كما تمَّ الاتفاق على ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه –  ، وهو أحد الأشهر الحرم التي ذكر الله في كتابه ، فقال تعالى : ] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ [التوبة/36] عَنْ أَبِى بَكْرَةَ - رضى الله عنه –  عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: « ... السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ... » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
    وقد أضاف الله تعالى هذا الشهر إليه تشريفاً وتعظيماً ، لأن الله تبارك وتعالى لا يضيف من الأشياء إليه إلا خواصُها كبيت الله ، ورسول الله ، ونحو ذلك ، وسمي محرماً تأكيداً لتحريمه ، لأن العرب كانت تتقلب فيه ، فتحله عاماً وتحرمه عاماً .
     وقوله تعالى : ] فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ أي : في هذه الأشهر المحرَّمة ، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، قال قتادة-رحمه الله- : ( إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء ) تفسير ابن كثير (4/89 ، 90).
وقد دل الحديث على أن أفضل ما يتطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم ، والظاهر أن هذا محمول على أنه أفضل شهر يُتطوع بصيامه بعد رمضان ، أما التطوع بصيام بعض الأيام منه فقد يكون بعض الأيام أفضل من أيامه كيوم عرفة ، وستة أيام من شوال .
يوم عاشوراء في التأريخ:
     عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ . رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ واللفظ له ومسلم (2) .
     الحديث دليل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون يوم عاشوراء ، وأنه يوم مشهور عندهم ، وأنهم كانوا يصومونه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه - أيضاً - ، واستمر على صيامه قبل الهجرة ، ولم يأمر الناس بصيامه ، وهذا يدل على قدسية هذا اليوم وعظيم منزلته عند العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كانوا يسترون فيه الكعبة ، كما في حديث عَائِشَةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: « كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ ...» رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ ح (1515)، قال الإمام القرطبي-رحمه الله- : ( حديث عائشة يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل - صلوات الله وسلامه عليهما - فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما …) المفهم (3/190) .
والذي يستفاد من مجموع الأدلة أن صوم عاشوراء كان واجباً في أول الأمر بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، على الصحيح من قولي أهل العلم (3) ، لثبوت الأمر بصومه ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضى الله عنه - قَالَ أَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِى النَّاسِ:« أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (4) .
ولما فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة نُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراء ، وبقي الاستحباب ، ولم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ، وهي السنة الثانية من الهجرة حيث فرض عاشوراء في أولها ، ثم فرض رمضان بعد منتصفها، ثم عزم النبي- صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره - في السنة العاشرة - على ألا يصومه مفرداً بل يصوم قبله اليوم التاسع ، كما سيأتي - إن شاء الله - وهي صورة من صور مخالفة أهل الكتاب في صفة صيامهم .
الترغيب في صيام يوم عاشوراء:

     عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ-رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ:« يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ». وفي رواية:« وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (1162).
     الحديث دليل على فضل صيام يوم عاشوراء ، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، على القول الراجح والمشهور عند أهل العلم . أنظر: الفتح (4/245). وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟.فَقَالَ: « مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ وَلاَ شَهْرًا إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ يَعْنِى رَمَضَانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (5) .
فيستحب للمسلم أن يصوم هذا اليوم ، ويحث أهله وأولاده على صيامه ، اغتناماً لفضله ، وتأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضى الله عنه – قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا... » رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (1128).
والصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى ، ومن فوائد صوم التطوع - إضافة إلى ما رُتِّب عليه من الأجر - أنه كغيره من التطوعات يجبر ما عسى أن يكون في أداء الفرض من نقص أو تقصير ، وفي ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-  في شأن الصلاة: « قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ ؟ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ » صحيح الجامع ح (2020) .
وأعلم أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب ، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة ، وعاشوراء وغيرها ، أن المراد به الصغائر ، لأن هذه العبادات العظيمة ، وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تُكَفَّر بها الكبائر - كما ثبت في السنة - ، فكيف بما دونها من الأعمال ؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر كالربا والزنا والسحر وغيرها ، لا تكفِّرها الأعمال الصالحة ، بل لا بد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد .
     قال شيخ والإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:((وَتَكْفِيرُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ لِلصَّغَائِرِ فَقَطْ، وَكَذَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَرَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنْهُ)) أنظر:"الفتاوى الكبرى" (4/428)،"والاختيارات" (صـ 65).
     وقال الإمام النووي-رحمه الله- : قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ-رحمه الله-:(وَكُلُّ مَا يَرِدُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ فَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغَائِرِ دُونَ الْمُوبِقَاتِ ؛ هَذَا كَلَامُهُ ) " المجموع " (6/ 428 – 431).
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ - رضى الله عنه –  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :( مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا ، إلَّا كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً . وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)  رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (228) .
     قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ-رحمه الله-:(هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْأَحَادِيثِ - مِنْ غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ - هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إنَّمَا تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْله) شرح مسلم (3/112) .
الحكمة من صيام يوم عاشوراء:
     عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما – قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-:« نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ». فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ. رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ ح (3943) ، وَمُسْلِمٌ ح (1130) ، وفي رواية لمسلم : « فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ ».
     في الحديث بيانٌ للحكمة العظيمة من مشروعية صيام يوم عاشوراء ، وهي تعظيم هذا اليوم وشكرُ الله تعالى على نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ، وإغراق فرعون وقومه ، ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى ، وصامته اليهود ، وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شكراً لله تعالى ، فنحن نصومه كذلك ، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- :« نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ » وفي رواية : « فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ » أي : نحن أثبت وأقرب لمتابعة موسى عليه السلام منكم ، فإنا موافقون له في أصول الدين ، ومصدقون لكتابه ، وأنتم مخالفون لهما بالتغيير والتحريف ، والرسول -صلى الله عليه وسلم-  أطوع وأتبع للحق منهم ، فلذا صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه ، وتأكيداً لذلك .
     وَعَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صُومُوهُ أَنْتُمْ » رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ ح (2005) ، وَمُسْلِمٌ ح (1131) ،وفي رواية لمسلم : عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَصُومُوهُ أَنْتُمْ ».
وظاهر هذا أن من حكمة صومه مخالفة اليهود ، وذلك بعدم اتخاذه عيداً ، والاقتصار على صومه ، لأن يوم العيد لا يصام ، وهذا وجه من مخالفة اليهود في يوم عاشوراء ، وسيأتي - إن شاء الله - وجه آخر من المخالفة ، وهو صوم التاسع قبله .
وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان :
     طائفة شابهت اليهود: فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك من أعمال الجهال، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد ، والبدعة بالبدعة .
     وطائفة أخرى: اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة ، لأجل قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب ، وإنشاد قصائد الحزن ، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها ، والقصد منها فتح باب الفتنة ، والتفريق بين الأمة ، وهذا عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً .
وقد هدى الله تعالى أهل السنة ففعلوا ما أمرهم به نبيهم -صلى الله عليه وسلم-  من الصوم ، مع رعاية عدم مشابهة اليهود فيه ، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع ، فلله الحمد والمنة .
استحباب صيام اليوم التاسع مع العاشر:
     عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ». قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.، وفي رواية : « لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (1134) .
الحديث دليل على أنه يستحب لمن أراد أن يصوم عاشوراء أن يصوم قبله يوماً ، وهو اليوم التاسع ، فيكون صوم التاسع سنة وإن لم يصمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه عزم على صومه ، والغرض من ذلك - والله أعلم - أن يضمه إلى العاشر ليكون هديه مخالفاً لأهل الكتاب ، فإنهم كانوا يصومون العاشر فقط ، وهذا تشعر به بعض الروايات في مسلم ، وقد صح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - موقوفاً عليه أَنَّهُ قَالَ: «صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ» صحيح سنن الترمذي ح (755).
وفي هذا دلالة واضحة على أن المسلم منهي عن التشبه بالكفار وأهل الكتاب ، لما في ترك التشبه بهم من المصالح العظيمة ، والفوائد الكثيرة ، ومن ذلك قطع الطرق المفضية إلى محبتهم والميل إليهم ، وتحقيق معنى البراءة منهم ، وبغضهم في الله تعالى ، وفيه - أيضاً - استقلال المسلمين وتميزهم  .أنظر: " رسالة في أحاديث شهر الله المحرم" لعبد الله الفوزان بتصرف.
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

انتهاء في
7/ من ذي الحجة / 1432هـ
الموافق 3/ من نوفمبر / 2011م





(1) صحيح البخاري (4662) ومسلم (1679) .
(2) صحيح البخاري (1794) ومسلم (1125) .
(3) أنظر: الفتاوى (25/311) .
(4) صحيح البخاري (2007) ومسلم (1135) ، وله شاهد من حديث الرُّبَيِّع بنت معوِّذ عند البخاري (1960) ومسلم (1136) وشواهد أخرى عند أحمد وغيره .
(5) صحيح البخاري (2006) ومسلم (1132) .