جديدالموقع

بغية الأقوال في شهر شوال



كتبه
أبو مريم أيمن بن دياب بن محمود العابديني
غفر الله تعالى له ولوالديه


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،،
     فيا أيها القارئ الكريم إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102]، وقال النبيُّ e: « إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ »رواه مسلم، فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلاّ الموتَ، فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام بذلك، فالصيام لا يزالُ مشروعاً ولله الحمد في العام كلِّه.
     ففي حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ t أنَّ النبيَّ e قال: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ». رواه مسلم. وصيامُ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ قال فيها النبيُّ e : « ثَلاَثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ » رواه مسلم. وقال أبو هريرة t: أوصانِي خَلِيلي e بثلاثٍ وذكر منها صيام ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر. رواه مسلم.
     والأوْلَى أن تكونَ أيامَ الْبِيض وهي الثالث عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ،لحديث أبي ذرٍّ t أنَّ النبيَّ e قال: « يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ ». صحيح الجامع ح(673).
     فهذه لمحة مختصرة عن أحكام صيام الست من شوال أسأل الله أن ينفع بها الجميع، فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : حكمها :
صيام الستة من شوال سنة لما ثبت عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e قَالَ: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ » رواه مسلم.
قلت: ذهب جمهور الفقهاء - المالكية، والشافعية، والحنابلة، ومتأخرو الحنفية - إلى أنه يسن صوم ستة أيام من شوال بعد صوم رمضان ... الموسوعة الفقهية (2/9989).
وقال الإمام ابن قدامة-رحمه الله-: (( صَوْمَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ )) المغني (6/193). ثانياً : فضلها :
لقد بين النبي e أن من صام الست من شوال كان كصيام الدهر كما في الحديث أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ t، وقد فسّر ذلك النبي e بقوله : « مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)» صحيح ابن ماجة ح (1715). وفي رواية : " جعل الله الحسنة بعشر أمثالها الشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بعد الشهر تمام السنة "صحيح الجامع ح(3094)، وفي رواية: « صِيَامُ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ بِشَهْرِينِ فَذَلِكَ تَمَامُ السَّنَةِ » صحيح الجامع ح(3851).
قال الإمام النووي - رحمه الله -: قَالَ الْعُلَمَاء : (( وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْر ؛لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَرَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالسِّتَّة بِشَهْرَيْنِ)) شرح النووي (4/186).
ثالثاً: ثمراتها:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -:
(1)            أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
(2)            أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة.. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال.
(3)            أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: " ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها".
(4)            أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، كما سبق ذكره .
(5)            أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، كان النبي e يقوم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:« أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »متفق عليه. وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان، وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقيب ذلك.
     كان بعض السلف-رحمهم الله- إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.
     وكان وهيب بن الورد-رحمه الله- يُسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: " لا تَسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وُفق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه".
     كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر. لطائف المعارف (2/35)بتصرف.
رابعاً : مسائل متفرقة:
(1)            يستحب بدء صيام الست بعد العيد مباشرة؛ لأن ذلك من باب المسارعة إلى الخير .
قال تعالى: (( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ))[آل عمران/134]، وقال تعالى: (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ))[الحديد/21].
(2)            يجوز تفريقها في شهر شوال كاملاً ولا يلزم التتابع فيها؛ لأن الرسول e أطلق صيامها ولم يذكر تتابعاً ولا تفريقاً، حيث قَالَ « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ »رواه مسلم.
(3)            من صامها في عام لا يلزمه أن يصومها في عام آخر لكنه يستحب له ذلك؛ لقول النبي e: « أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ » رواه البخاري ومسلم.
(4)             يلزم في الست من شوال ونحوها من النفل المقيد من تبييت النية من الليل لقول النبي e : « مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ » صحيح الجامع ح (6534).
     قلت: قال الإمام الشوكاني-رحمه الله- :(( الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ وَإِيقَاعِهَا فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ )) نيل الأوطار (7/30).
     وقال الإمام ابن حزم-رحمه الله-: مَسْأَلَةٌ:(( وَلا يُجْزِئُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، لأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِأَنْ لا صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ ، وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا)) المحلى (4/51) بتصرف. 
     وقال الإمام الصنعاني-رحمه الله-: (( وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عُمُومُ حَدِيثِ التَّبْيِيتِ وَعَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَلَمْ يَقُمْ مَا يَرْفَعُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَتَعَيَّنَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِمَا)) سبل السلام (3/308) .
     وقال العلاّمة ابن عثيمين -رحمه الله- : (( أنه لا بد من تبييت النية من الليل في الصيام المعين، كالست من شوال، ويوم عرفة، ويوم العاشر من شهر الله المحرم وغير ذلك من الصيام المعين؛ لأنه إذا صام من نصف النهار لا يصدق عليه أنه صام اليوم كله، فالنبي _عليه الصلاة والسلام_ رتَّب الأجرَ على صيام الأيام الستة كلها .
وأيضاً لما ذكره جمع من العلماء بأن الأجر إنما يكون من حين النية، وحينئذ إذا كانت بداية الصوم ليست من أول اليوم – يعني من طلوع الفجر- فسيكون أجره ناقصاً، فلا ينال الأجر المرتب على صيام هذه الستة.
وعلى هذا إذا بدأ الصائم صومه من النهار فلا يصح صيامه على أنه نفل معين، وإنما يكون نفلاً مطلقاً، يعني له أجر صيام النفل المطلق، والله _تعالى_ أعلم)) انظر الشرح الممتع (6/372 (، وفتاوي الصيام/ص185.

     وقال العلاّمة ابن باز-رحمه الله-:(( الست من شوال : لا يحصل له الفضل حتى يبدأ النية من الأول ( أول اليوم) )) (الحلل الإبريزية)(2/135).
(5)            لا يلزم إتمام الست من شوال، فمن استطاع الإتمام فقد أحسن ومن لا فلا حرج عليه لقوله e :« الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ » صحيح الجامع ح (3854).
(6)            الأولى لمن عليه قضاء من رمضان أن يبدأ به لأنه أبرأ لذمته ؛ ولأن الفرض مقدم على النافلة، واختلف أهل العلم فيمن قدم الست من شوال على صيام الفرض على قولين :
القول الأول: أن فضيلة صيام الست من شوال لا تحصل إلا لمن قضى ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر. لقوله e :« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ » رواه مسلم. وإنما يتحقق وصف صيام رمضان لمن أكمل العدة.
     قال الإمام الهيتمي-رحمه الله-: (( لِأَنَّهَا مَعَ صِيَامِ رَمَضَانَ أَيْ : جَمِيعِهِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ الْفَضْلُ الْآتِي وَإِنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ)) تحفة المحتاج (3/457).
     وقال الإمام ابن مفلح-رحمه الله-: (( يَتَوَجَّهُ تَحْصِيلُ فَضِيلَتِهَا لِمَنْ صَامَهَا وَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَقَدْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الْأَصْحَابِ، وَمَا ظَاهِرُهُ خِلَافُهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)) انظر الفروع (3/108).
وبهذا قال العلاّمة  ابن باز، وابن عثيمين-رحمهما الله-، واللجنة الدائمة (10/392).
القول الثاني: أن فضيلة صيام الست من شوال تحصل لمن صامها قبل قضاء ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر؛ لأن من أفطر أياماً من رمضان لعذر يصدق عليه أنه صام رمضان فإذا صام الست من شوال قبل القضاء حصل ما رتبه النبي e من الأجر على إتباع صيام رمضان ستاً من شوال.
وقد نقل البجيرمي في حاشيته على الخطيب (2/352): بعد ذكر القول بأن الثواب لا يحصل لمن قدم الست على القضاء محتجاً بقول النبي e: " ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ" عن بعض أهل العلم الجواب التالي: ((وَقَدْ يُقَالُ التَّبَعِيَّةُ تَشْمَلُ التَّقْدِيرِيَّةَ لِأَنَّهُ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بَعْدَهَا وَقَعَ عَمَّا قَبْلَهَا تَقْدِيرًا ، أَوْ التَّبَعِيَّةُ تَشْمَلُ الْمُتَأَخِّرَةَ كَمَا فِي نَفْلِ الْفَرَائِضِ التَّابِعِ لَهَا ا هـ .
فَيُسَنُّ صَوْمُهَا وَإِنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ ، أَيْ بِعُذْرٍ)).
والذي يظهر أن ما قاله أصحاب القول الثاني له وجه؛ لا سيما وأن المعنى الذي تدرك به الفضيلة ليس موقوفاً على الفراغ من القضاء قبل الست فإن مقابلة صيام شهر رمضان لصيام عشرة أشهر حاصل بإكمال الفرض أداء وقضاء وقد وسع الله في القضاء فقال:﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة/185]، أما صيام الست من شوال فهي فضيلة تختص هذا الشهر تفوت بفواته لغير عذر. ومع هذا فإن البداءة بإبراء الذمة بصيام الفرض أولى من الاشتغال بالتطوع، والله أعلم. حكم صيام الست لخالد المصلح بتصرف.
(7)            استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على استحباب صيام الدهر، قَالُوا وَلَوْ كَانَ صَوْم الدَّهْر مَكْرُوهًا لَمَا وَقَعَ التَّشْبِيه بِهِ، بَلْ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل الصِّيَام ؟
وأجاب عن ذلك الْحَافِظ شَمْس الدِّين اِبْن الْقَيِّم-رَحِمه اللَّه- فقال: (( هَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِد جِدًّا مِنْ وُجُوه :
أَحَدهَا : أَنَّ فِي الْحَدِيث نَفْسه أَنَّ وَجْه التَّشْبِيه هُوَ أَنَّ الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، فَسِتَّة وَثَلَاثُونَ يَوْمًا بِسَنَةٍ كَامِلَةٍ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ صَوْم السَّنَة الْكَامِلَة حَرَام بِلَا رَيْب وَالتَّشْبِيه لَا يَتِمّ إِلَّا بِدُخُولِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق فِي السَّنَة وَصَوْمهَا حَرَام فَعُلِمَ أَنَّ التَّشْبِيه الْمَذْكُور لَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز وُقُوع الْمُشَبَّه بِهِ فَضْلًا عَنْ اِسْتِحْبَابه فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُون أَفْضَل مِنْ غَيْره .
نَظِير هَذَا : قَوْل النَّبِيّ e لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَاد ؟ فَقَالَ " لَا تَسْتَطِيعهُ . هَلْ تَسْتَطِيع إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِد أَنْ تَقُوم فَلَا تَفْتُر، وَتَصُوم فَلَا تُفْطِر ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَذَلِكَ مِثْل الْمُجَاهِد " وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا الْمُشَبَّه بِهِ غَيْر مَقْدُور وَلَا مَشْرُوع .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَل قَوْله " فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر " عَلَى مَا عَدَا الْأَيَّام الْمَنْهِيّ عَنْ صَوْمهَا . قِيلَ : تَعْلِيلُهُ e حِكْمَة هَذِهِ الْمُقَابَلَة، وَذِكْره الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، وَتَوْزِيع السِّتَّة وَالثَّلَاثِينَ يَوْمًا عَلَى أَيَّام السَّنَة : يُبْطِل هَذَا الْحَمْل .
   الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ e سُئِلَ عَمَّنْ صَامَ الدَّهْر، فَقَالَ " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، وَفِي لَفْظ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد " فَإِذَا كَانَ هَذَا حَال صِيَام الدَّهْر فَكَيْف يَكُون أَفْضَل الصِّيَام ؟
   الثَّالِث : أَنَّ النَّبِيّ e ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " أَفْضَل الصِّيَام صِيَام دَاوُدَ " وَفِي لَفْظ " لَا أَفْضَل مِنْ صَوْم دَاوُدَ : كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِر يَوْمًا " فَهَذَا النَّصّ الصَّحِيح الصَّرِيح الرَّافِع لِكُلِّ إِشْكَال، يُبَيِّن أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَل مِنْ سَرْد الصَّوْم . مَعَ أَنَّهُ أَكْثَر عَمَلًا . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِطْر أَفْضَل مِنْهُ لَمْ يُمْكِن أَنْ يُقَال بِإِبَاحَتِهِ وَاسْتِوَاء طَرَفَيْهِ . فَإِنَّ الْعِبَارَة لَا تَكُون لَهُ بِالْإِبْطَالِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُون مَرْجُوحًا، وَهَذَا بَيِّنٌ لِكُلِّ مُنْصِفٍ . وَلِلَّهِ الْحَمْد)) تهذيب سنن أبي داود (1/494).
(8)            هل يمكن أن تُصام هذه الست في غير شوال وتحصل نفس المزية ؟
أجاب عن ذلك الْحَافِظ شَمْس الدِّين اِبْن الْقَيِّم-رَحِمه اللَّه-فقال : (( اِخْتِصَاص شَوَّال فَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الرِّفْق بِالْمُكَلَّفِ، لِأَنَّهُ حَدِيث عَهْد بِالصَّوْمِ، فَيَكُون أَسْهَلَ عَلَيْهِ فَفِي ذِكْر شَوَّال تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ صَوْمهَا فِي غَيْره أَفْضَل، هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْقَرَافِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة، وَهُوَ غَرِيب عَجِيب .
الطَّرِيق الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُود بِهِ الْمُبَادَرَة بِالْعَمَلِ، وَانْتِهَاز الْفُرْصَة، خَشْيَة الْفَوَات. قَالَ تَعَالَى { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات } وَقَالَ:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبّكُمْ } وَهَذَا تَعْلِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ .
قَالُوا : وَلَا يَلْزَم أَنْ يُعْطِيَ هَذَا الْفَضْل لِمَنْ صَامَهَا فِي غَيْره، لِفَوَاتِ مَصْلَحَة الْمُبَادَرَة وَالْمُسَارَعَة الْمَحْبُوبَة لِلَّهِ.
قَالُوا : وَظَاهِر الْحَدِيث مَعَ هَذَا الْقَوْل . وَمَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ فَقَوْلُهُ أَوْلَى. وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلْغَاء خُصُوصِيَّة شَوَّال، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَة .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَمَّا كَانَ صَوْم رَمَضَان لَا بُدّ أَنْ يَقَع فِيهِ نَوْع تَقْصِير وَتَفْرِيط، وَهَضْم مِنْ حَقِّهِ وَوَاجِبِهِ نَدَبَ إِلَى صَوْم سِتَّة أَيَّام مِنْ شَوَّال، جَابِرَةٍ لَهُ، وَمُسَدِّدَة لِخَلَلِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَقَع فِيهِ. فَجَرَتْ هَذِهِ الْأَيَّام مَجْرَى سُنَن الصَّلَوَات الَّتِي يُتَنَفَّل بِهَا بَعْدهَا جَابِرَة وَمُكَمِّلَة، وَعَلَى هَذَا : تَظْهَر فَائِدَة اِخْتِصَاصهَا بِشَوَّال، وَاَللَّه أَعْلَم . تهذيب سنن أبي داود (1/490، 491).
(9)            لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض أو قضاء رمضان كاملاً حتى خرج شوال، يقضيها ويكتب له أجرها كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها كما جاءت به السنة)) انظر الشرح الممتع ( 6 /372 (بتصرف.
(10)     كره بعض العلماء صيام الأيام الستة كل عام مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات، أن تصلى كل يوم وهذا اللازم باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان. انظر الشرح الممتع ( 6 /372(.
(11)      هناك فرق بَيْن أَنْ يَقُول " فَكَأَنَّمَا قَدْ صَامَ الدَّهْر " وَبَيْن قَوْله " فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر " هُوَ أَنَّ الْمَقْصُود تَشْبِيه الصِّيَام بِالصِّيَامِ . وَلَوْ قَالَ : فَكَأَنَّهُ قَدْ صَامَ الدَّهْر، لَكَانَ بَعِيدًا عَنْ الْمَقْصُود، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُون تَشْبِيهًا لِلصَّائِمِ بِالصَّائِمِ. فَمَحَلّ التَّشْبِيه هُوَ الصَّوْم، لَا الصَّائِم، وَيَجِيء الْفَاعِل لُزُومًا، وَلَوْ شَبَّهَ الصَّائِم لَكَانَ هُوَ مَحَلّ التَّشْبِيه، وَيَكُون مَجِيء الصَّوْم لُزُومًا، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْد تَشْبِيه الصَّوْم أَبْلَغ وَأَحْسَن لِتَضَمُّنِهِ تَنْبِيه السَّامِع عَلَى قَدْر الْفِعْل وَعِظَمِهِ وَكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَتَتَوَفَّرُ رَغْبَته فِيهِ. تهذيب سنن أبي داود (1/492).
فاجتهدُوا إخوانِي في فعلِ الطاعاتِ، واجتنبُوا الخطايَا والسيئاتِ، لتفوزُوا بالحياةِ الطيبةِ في الدنيا والأجْرِ الكثير بعد المَمَات قال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَـلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل/97].
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
انتهاء في
4/ من رمضان/1431هـ
الموافق
14/من أغسطس/2010م