جديدالموقع

الاِئْتِلاَفُ وَذَمُّ الْفِرْقَةِ وَالاِخْتِلاَفِ


كتبه
أبو مريم / أيمن بن دياب بن محمود العابديني
غَفَرَ اللَّـهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ



     الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي أنعم على عباده المؤمنين بالهداية والاعتصام بحبله المتين، وجمعهم على الحق، ووقاهم شر التشاحن، وذل التخاذل، ومنَّ عليهم بالإخاء والألفة، وجنبهم الاختلاف والفرقة.
وبعد،،،
     فإنه لا يستقيم للناس حال في دنياهم، ومآلهم إلا بالاتفاق والائتلاف، واجتناب التنابذ والاختلاف.
     ولا يحصل الاتفاق الكامل، الذي تكون فيه المحبة والألفة، إلا مع العقيدة صافية من الشوائب، وسالمة من الانحرافات، والغوائل فهناك يقوى الاتفاق ويتم، وتتأصل الرابطة، ويحصل البذل والإيثار، ولهذا أمر الله تعالى عباده بتقواه المستلزم لحصول الإيمان، وفعل المأمور، واجتناب المحظور، ثم أمر بالاعتصام بحبله جميعا ونهى عن التفرق والاختلاف، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  [آل عمران/102-105].
     قال الإمام الطبري-رحمه الله-:﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا المعنى وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك أن تمسكوا بدينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله .
     والاعتصام: هو الامتناع بالشيء والاحتماء به، والعصم: هو المنع . والحبل: هو السبب الذي يُوصل إلى المراد، ولذلك سمي الأمان حبلا، لأنه يوصل إلى زوال الخوف، والنجاة من الفزع والذعر. ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران/112]، وقد فسر حبل الله بأنه الاجتماع على الحق.
     روى ابن جرير بسنده إلى ابن مسعود، قال: "حبل الله الجماعة " تفسير الطبري (7/71).
     وروى عن قتادة قال: "حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن".وكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء.
     ورُوي عن ابن مسعود، قال: « إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ يَحْتَضِرُهُ الشَّيَاطِينُ، يُنَادُونَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلُمَّ  هَذَا الصِّرَاطَ ! لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ » تفسير الطبري (7/71).
     وقال مجاهد: "حبل الله عهده وأمره".
     وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:" كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ " الصحيحة ح (2024).
     وهذه الأقوال كلها حق، وليس فيها اختلاف، فحبل الله هو كتابه، ودينه وأمره الذي أمر به عباده، وعهد إليهم به، وهو الذي أمر بالاجتماع عليه، ونهى عن التفرق فيه.
     والمقصود من ذلك كله أن يوحدوا الله تعالى بالطاعة والعبادة، ويخلصوا له العمل، والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق، والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ولذلك بعد أن أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، وهو الاجتماع على دينه والاحتماء به، أكد ذلك بالنهي عن الفرقة، فقال تعالى: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ قال الإمام الطبري-رحمه الله-: " يعني ألا تفرقوا عن دين الله وعهده إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعة الله، وطاعة رسوله e والانتهاء إلى أمره"، ثم روى عن قتادة، قال: إن الله تعالى كره لكم الفرقة، وقدَّم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
     وروى عن ابن مسعود t قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ ». تفسير الطبري (7/75).
     ومن الأمور المسلَّم بها أنه لابد للناس من أمر يجتمعون عليه، يحكم بين المختلفين ويفصل بين المتنازعين إذ الاختلاف من طبيعتهم، ولابد له ممن يلزم من يأبى ذلك، وينفذ الأحكام، حتى يأمن الناس على أنفسهم، وأموالهم، ويكون اتجاههم موحدا.
     ولهذا اتفقت المجتمعات على اختلاف أديانها، ووجهاتها على وضع قانون يرجعون إليه عند الاختلاف، ويحكمونه عند المنازعات، فهو من الضروريات التي لا تصلح دنياهم إلا به.
     ومعلوم أن الإنسان ظلوم جهول، فلابد أن يقع في الجهل والظلم في وضع القانون وغيره، ولذلك أنزل الله تعالى الشرائع من عنده، لتحكم بين العباد بالعدل وأوجب تعالى على عباده الرجوع إلى شرعه، عند الاختلاف، ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وجعل ذلك شرطا في حصول الإيمان، فقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء/65].
     ثم لابد للمجتمع من رئيس مطاع ذي قوة وسلطان حتى يقوم بتنفيذ شرع الله تعالى على من يَلْزَمُهُ الحكم ويأباه أو يجهله وأمر الله تعالى عباده أن يكونوا عونا له على ذلك؛ لأن هذا هو الذي تحصل به مصالح الدنيا والآخرة وبدونه يعم الفساد والفوضى والظلم فلابد من إلزام الخلق بالحق ومنعهم من الظلم والتعدي في الدماء والأموال والأعراض وقطع السبل، وإلا فسدت الأمور وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وسفكت الدماء.
     ولابد من العدل في ذلك، وهو الميزان الذي أنزله الله على رسله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]، ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كذلك فهي في شر. قال الحسن: "إن الله أخذ على الحكام ثلاثا، أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا" قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] ، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾[المائدة: 44].
     والمقصود أن الله تعالى أوجب على المسلمين أن يجتمعوا على دين الحق الذي هو الإسلام وأن يعتصموا بكتاب الله تعالى، وأن تكون وحدتهم عليه، فعليه يجتمعون وبه يتحدون، لا بالقوميات والجنسيات، ولا بالمذاهب والأوضاع السياسية التي اخترعوها بأفكارهم القاصرة.
     ونهاهم تعالى عن التفرق والانقسام، بعد الاجتماع والاعتصام بكتاب الله تعالى في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العز والقوَة فبالاجتماع تقوى الأمة، وبالقوة يعتز الحق فيعلو على الباطل، ويحفظ من هجمات المواثبين، ويحمى من كيد الكائدين، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]، فالإسلام هو سبيله، والعصبيات والقوميات هي السبيل المشتتة التي تؤدي إلى الضعف والهلاك.
     والإسلام يأمر بالوفاق، والاتفاق، بين كل من تحكمهم شريعته، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وقد بددت العصبيات القبلية العرب قبل الإسلام، فلم يكن لهم شريعة تجمعهم ولا نظام يحكمهم، فنالوا بالإسلام العزة والسيادة والسعادة ، ولما سرى سمَّ العصبيات الموبوءة التي نقلها متفرنجة المسلمين إليهم ، يخادعون بذلك قومهم موهمين، بأنهم يريدون النهوض بأوطانهم ، وإعلاء شأنهم ، أصبح الأمر معكوسا فلم يجنوا من ذلك سوى الضعف والتفكك ، والتفرق الذي مهد السبيل أمام أعدائهم للاستيلاء على خيرات بلادهم ، وعلى أفكارهم ، وفي النهاية أصبح أعداؤهم يتحكمون فيهم ، وإن أوهموهم بأن الأمر بأيديهم.
     فالإسلام وحده هو الأساس الذي ينبع منه إيجاد المجتمع المتكامل المتساند الذي يعمل من أجل خير الجميع، لأن الإسلام يعتبر الفرد هو النواة للجماعة، ولا يعترف بالجماعة إلا إذا كانت لا تعمل على ضمان صالح الفرد.
     ومن المتيقن أن المسلمين لن تقوم لهم دولة عزيزة قوية إلا إذا اجتمعوا على ما اجتمع عليه أوائلهم وأسلافهم ، الذين فتحوا البلاد بعدل الإسلام وعزته ، وفتحوا القلوب لعبادة الله وحده لا شريك له ، وبذلك صاروا هم القادة.
     وقد علم لكل من يقرأ التاريخ أن المسلمين كلما حادوا عن الطريق المستقيم وتفرقوا ، حاق بهم ما وقع بهم في الأندلس ، وغيره ، وأن ما وقع للمسلمين قديما وحديثا كله سببه الفرقة والتفرق ، فيجب أن يكون ذلك لهم عبرة ، فقد أبيدت أمم من المسلمين وسلبت بلادهم ، وسبيت نساؤهم وأولادهم ، وارتد من بقي منهم في تلك البلاد عن الإسلام كما حصل في الأندلس ، بسبب التفكك والاختلاف الذي نهاهم عنه دينهم وحذرهم الله منه على لسان رسوله e ، كما في حديث ثوبان " وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (2889).
     ولما كانوا مجتمعين، تسودهم روح الإسلام ، ويلتزمون أحكامه ، لم يكن العدو يطمع بهم وليس له فيهم منفذ ، حتى صاروا هم يدمرون أنفسهم وبلادهم ، بتفرقهم ، واختلافهم.
     ولهذا لما رأى الكفار قوة المسلمين ، ووحدة صفهم على عدوهم ، عملوا على تمزيق هذه الوحدة ، بوسائل متعددة ، منها تقسيم بلادهم إلى دويلات متعددة ، وجعلوا لكل دويلة حدودا ، ونظاما، وأمورا قد يحصل بسببها القتال بينها وبين جارتها وبذلك أمكنهم السيطرة على المسلمين ، من نواحي متعددة.
     ومعرفة الجماعة وأهميتها في الدين ، وكذلك معرفة حكم الفرقة وعظيم ضررها مما ينبغي الاعتناء به، وكذلك معرفة منشأ الفرقة وأسبابها، فإن بالفرقة يحصل التلاعن والتباغض والتقاطع ، ثم القتال ، وهذا أصل محرم في الشرائع كلها التي أنزلها الله على رسله، وإنما ترتكب بظلم الناس وجهلهم.
     وقد ذم الله تعالى الاختلاف ونهى عند أشد النهي، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام: 159] ، وقال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213]، فأخبر تعالى عن اتفاق الناس في الأصل، وأنهم كانوا جماعة متحدة، ثم اختلفوا.
     وهذا الاختلاف في الدين ، هو الاختلاف الذي يكون به تضليل بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم لبعض ، ثم بعد ذلك يكون القتال وشدة التفرق.
     وقد بعث الله تعالى إلى العباد النبيين مبشرين من أطاعهم واجتمع على الهدى الذي جاءوا به ، بالسعادة والسيادة ، ومنذرين من عصاهم , بالعذاب في الآخرة والعقوبة في الدنيا ، بما ينغص عليهم حياتهم ، أو يهلكهم بعذاب متصل بعذاب الآخرة.
     فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: " إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (1715) ، وهذه النصوص وأمثالها تدل على وجوب جمع كلمة المسلمين واجتناب كل ما يكون سببا للخلاف ، حتى مسائل العلم الاجتهادية التي ينشأ عنها تفرق ومعاداة.
     قال تعالى:﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[الجاثية: 17]، فبين تعالى أن الاختلاف الموجب للفتنة والفرقة إنما هو بغي ، وعدوان ، فلا تكون فتنة وفرقة مع الاختلاف السائغ في الشرع.
     ولهذا نهى النبي e عن القتال في الفتنة، وصار هذا أصل من أصول أهل السنة التي تذكر في العقائد لأهميته.
     وكل ما أوجب فتنة أو فرقة بين المؤمنين فليس هو من الدين ، سواء كان قولا أو فعلا. والفتنة والفرقة لا تقعان إلا مِن تَرْك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أومن ترك الصبر.
فالمظلوم إذا كان على حق فإنه يؤمر باحتمال الأذى والصبر على البلوى، فإذا ترك الصبر فإنه يكون تاركا لما أمر الله به.
     والمقصود أنه لا يحل دفع الأذى الذي يكون في دفعه فتنة بين الأمة، أو ينتج عنه شر عظيم أو أعظم من الأذى المطلوب دفعه، أو يكون في دفعه ظلم وعدوان، بل المتعين حينئذ الصبر والاحتمال وضبط النفس، فإن ذلك في حق المظلوم ابتلاء وامتحان، وإذا صبر واحتسب كانت العاقبة له، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان: 20] ، أي يبتلى بعضكم ببعض لينظر من يصبر فيستحق الجزاء الأوفى، في الدنيا والآخرة.
     وفي هذا تنبيه على وجوب الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين.
     وهذا كله محافظة على الاجتماع وخوفا من التفرق الذي يضعف الأمة أمام هجمات الأعداء ومحافظة على دمَاء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ؛ لما يحصل في الاختلاف على ولي الأمر من الفتن وسفك الدماء وذهاب الأموال وهتك الأعراض ؛ كما جرب الناس ذلك وعانوا منه العنت والشر الكثير.
     فالمتعين على المسلم أن يكون أصل قصده توحيد الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله e بإتباع أمره، واجتناب نهيه، يدور مع ذلك حيث وجده، في قوله، وعمله، فلا ينتصر لقول شخص مهما كان، انتصارا مطلقا إلا لرسول الله e لأنه لا ينطق عن الهوى، وهو معصوم عن الخطأ في ما يبلغه عن الله تعالى، ويعلم أن أفضل الناس بعد الأنبياء هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعن، فلا ينتصر لطائفة انتصارا عاما مطلقا إلا لهم، ومن عداهم فالانتصار لهم يجب أن يكون بقدر ما معهم من الحق، وذلك لأن الحق والهدى يدور مع الرسول e، وأصحابه إذا اجتمعوا فهم على الحق قطعا، بخلاف أصحاب غيره ، فيجوز أن يجتمعوا على الباطل، أما مجموع الأمة فلا تجتمع على الباطل ومن الممتنع أن لا يعرف الصحابة الحق الذي جاء به رسول الله e وأن يعرف أحد بعد الصحابة، ما لا يعرفه الصحابة بمجموعهم، أو يعرف حقا يخالف ما جاء به الرسول e بل كل ما خالف قوله أو فعله فهو باطل.
     فلابد من إخلاص العمل لوجه الله تعالى، ومن الاعتصام بحبل الله، وهو إتباع كتابه وسنة رسوله e فإن لم يكن ذلك فالهلاك أقرب إلى الإنسان من عنقه، وألزم له من ظله، نسأل الله الهداية والتوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أنظر: " ذَمّ الفرقة وَالاخْتِلاَف في الكتاب والسنة" للغنيمان بتصرف.