جديدالموقع

وقفات مع العشر ذي الحجة




كتبه
أبو مريم أيمن بن دياب بن محمود العابديني
غفر الله تعالى له ولوالديه

     بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،،
     فيا أيها القارئ الكريم إن من نعم الله تعالى علينا أن مواسم الخير يتبع بعضها بعضاً، فبعد أن انقضى موسم رمضان جاء موسم الحج، وموسم العشر من ذي الحجة، قَالَ e: (( إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا)) الصحيحة تحت ح (1890)، فينبغي أن نتعرف على نعم الله علينا بهذه المواسم التي هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات تتكرر علينا كل عام؛ ليتكرر بها علينا فضل الله، ونجدد النشاط على صالح الأعمال .
     يقول العلماء إن الحكم على الشئ فرع عن تصوره, ولذلك فإننا نحتاج إلي وقفات مع العشر من ذي الحجة لتصور فضل هذه الأيام حتى نعرف قيمتها ونقدرها حق قدرها .  
الوقفة الأولى: فضل عشر ذي الحجة:
ولهذه الأيام فضائل كثيرة من أهمها :-

(1)   أن الله تعالى قد أقسم بها في كتابه الكريم: فقال: } وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ  {[الفجر/1-3]، والصحيح الذي عليه جمهور المفسرين أن الليالي العشر هي عشر ذي الحجة, قال الإمام الطبري-رحمه الله- :"والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه" جامع البيان (7/ 514) ، وقال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف " تفسير القرآن العظيم (4/539)، وقال الإمام الشوكاني-رحمه الله-: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين" فتح القدير (5/613)، وقد أقسم الله بهذه العشر وهذا دليل واضح على عظمها وشرفها .
(2)   أقسم الله تعالى بيوم عرفة على وجه الخصوص:  وذلك في قوله تعالى } وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ {[البروج/1-3]، قَالَ eالْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ » الصحيحة ح (1502).
(3)     وهي الأيام المعلومات: التي ورد ذكرها في قوله تعالى:  }وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ {[الحج/27، 28]، وقد ورد هذا التفسير عن اِبْنِ عَبَّاسٍ، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما-, ورواه عنه( أي:ابن عباس t) البخاري في صحيحه تعليقا، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، واِبْنُ مَرْدَوَيْهِ . انظر:الفتح (2/582), وقال به جمع من الفقهاء .
     وذلك الذكر يكون للحاج لأنه يسوق الهدى للذبح في هذه الأيام ويشاركه في ذلك إخوانه المسلمون الذين لم يتيسر لهم الحج .
(4)    وهي العشر المذكورة في قوله تعالى :} وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً{ [الأعراف /142] ، والثلاثون شهر ذي القعدة، به قال ابن عباس t، وروي عن مسروق ، ومجاهد ، وعطاء-رحمهم الله.انظر: تفسير ( ابن كثير، والطبري، وابن أبي حاتم-رحمهم الله) للآية. فالحمد لله الذي هدانا لهذه الأيام وأضلهم عنها، فنحن أولى بموسى u منهم .
(5)     وهي أعظم أيام السنة: فعَنِ ابْنِ عُمَرَ t عَنِ النَّبِىِّ e قَالَ: « مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ » صحيح الترغيب ح (1248).
(6)    وهى أفضل أيام الدنيا كلها: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ t أن رَسُولَ اللهِ e  قَالَ:« أَفْضَلُ أَيَّامِ الْدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ »-  يَعْنِي عَشْرُ ذِي الحْجَّةِ -. صحيح الجامع ح (1133).
(7)   فيها أعظم الأيام, يوم النحر: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ t عَنِ النَّبِىِّ e قَالَ: « إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ » صحيح الجامع ح (1064)، ويوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر, لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من الطواف والنحر واستراحوا . قال الإمام ابن القيم-رحمه الله-: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب U به" التبيان في أقسام القرآن (ص 18).
(8)   فيها يوم عرفة: وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام سنتين، قَالَ e:« الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» الصحيحة ح (1502)، وقَالَ e:« صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ »رواه مسلم.
(9)   وهي أيام يتضاعف فيها ثواب العمل: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t عَنْ النَّبِيِّ e أَنَّهُ قَالَ :((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ)) . قَالُوا : وَلَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ:((وَلَا الْجِهَادُ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)) رواه البخاري. وللترمذي :((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ)) . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )) صحيح ابن ماجة ح (1727).
قال الحافظ ابن رجب-رحمه الله- :" وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره" لطائف المعارف (ص459).
ومن أراد أن يستشعر فضل هذه الأيام ويتصور ذلك فليتدبر هذا الحديث : عن أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e  فَقَالَ :دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ ؟ قَالَ : ((لَا أَجِدُهُ)) . قَالَ: ((هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ ))؟ قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؟ متفق عليه. ومع ما للجهاد من هذه المكانة يبين النبي e أن الطاعة في العشر -التي هي دون الجهاد في غير العشر – أفضل منه، أما الجهاد فيها فلا شيء يعدله .
(10)       ومن فضل هذه الأيام أيضاً: ما أشار إليه الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:(( وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي اِمْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اِجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ )) فتح الباري (2/460).
فائدة: والمشهور أن ميزة هذه العشر في أيامها، وفضيلة عشر رمضان في لياليها، هذا الذي عليه الأكثر، قال شيخ الإسلام-رحمه الله-:(( أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ))، ثم قَالَ الإمام ابْنُ الْقَيِّمُ-رحمه الله- تعقيباً:" وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ. وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ. وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يُحْيِيهَا كُلَّهَا وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ" مجموع الفتاوى (25/287).هذا هو الراجح في التفضيل بينهما، والله أعلم .
الوقفة الثانية: بعض الأعمال الواردة في هذه الأيام:

ندب الحديث إلى العمل الصالح مطلقاً في هذه الأيام . وقد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَاداً شَدِيداً حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.صحيح الترغيب تحت ح (1248).
 ومن الأعمال التي ينبغي العناية بها :
(1)          الحج: لمن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قال النبي e : « مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » رواه البخاري .
(2)          العمرة: فقد شرع النبي e العمرة في أشهر الحج مخالفاً بذلك المشركين القائلين :" إِذَا عَفَا الْوَبَرْ، وَبَرَأَ الدَّبَرْ، وَدَخَلَ صَفَرْ، فَقَدْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ " صحيح سنن أبي داود ح (1987)! مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ e عَائِشَةَ فِى ذِى الْحِجَّةِ إِلاَّ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، وندب أصحابه إلى التمتع الذي يأتي فيه الإنسان بعمرة في أشهر الحج، وقرن في حجه بينه وبين العمرة، واعتمر أربع مرات كلهنّ في أشهر الحج. انظر صحيح مسلم ح (2197).
(3)          الاعتناء بالفرائض: إذ لا أحب إلى الله منها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:(( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) رواه البخاري.
(4)          ومنها كثرة النوافل: للحديث السابق، من تلاوة القرآن، والتنفُّل بالصلاة، وإدامة الذكر، والصلة، والصدقة، وإعانة المحتاج، وهذا باب لا يُحصى أفراده ولله الحمد .
(5)          كثرة الذكر: لقول الله تعالى :} وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ{ [الحج/28].
قال الحافظ ابن رجب-رحمه الله- :" و أما استحباب الإكثار من الذكر فيها – في أيام العشر - فقد دلَّ عليه قول الله عز و جل:}وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ{، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء " اللطائف ، ص (289).
وقال الإمام النووي-رحمه الله-:"واعلم أنه يُستحبُّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ويُستحب من ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر" الأذكار ، ص (389) .
(6)          صيام التسع: فمن غُلب أخذ منها ما يُطيقه، فعن هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ : "حَدَّثَتْنِي بَعْضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ e أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ " صحيح النسائي ح (2372).
ولا يُشوِّشُ على هذا قول أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-:" مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ" رواه مسلم، قال الإمام ابنُ القيّم-رحمه الله- بعد ما أورد هذه المسألة: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ" زاد المعاد (2/66)، ويقول الإمام النووي-رحمه الله- مزيلاً هذا الإشكال :" قول عائشة :" لَمْ يَصُمْ الْعَشْر"، يَتَأَوَّل قَوْلهَا: أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَض أَوْ سَفَر أَوْ غَيْرهمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ " شرح مسلم (8/71-72)، قلت: وربما صامها النبي e ثم ترك صيامها خشية أن تفرض كما ترك الاجتماع في صلاة الليل في رمضان لذات العلة، فأخبرت كل واحدة بما رأته من حاله e .
وإذا غُلب الإنسان فلا أقل من صوم يوم عرفة لغير الحاج، لقول نبينا e :(( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ))رواه مسلم .
(7)          قيام ليلها: فقد استحبه الشافعي وغيره، وقال سعيد بن جبير :" لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر" انظر اللطائف ، ص (289)، كناية عن القراءة والقيام.
(8)          دعاء يوم عرفة: قال e:« خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ »صحيح: مشكاة المصابيح ح(2598).، قال الحافظ ابن عبد البر-رحمه الله-: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره،... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب" التمهيد (6/41) .
الوقفة الثالثة: أحكام ومسائل:
(1)                التكبير : لقول النبي e :(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)) صححه الشيخ أحمد شاكر في تخريج المسند (7/224).
قال الإمام البخاري-رحمه الله- :" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِى أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا " الإرواء ح (651).
وعن يزيد بن أبي زياد-رحمه الله- قال:" رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"انظر: أحكام العيدين (ص 119).
وعن ميمون بن مهران-رحمه الله- قال:" أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير"انظر: فتح الباري لابن رجب (9/9).
وينبغي الجهرُ به ؛ إحياءً للسنة، وتذكيراً للغافل.
والتكبير فيها قسمان :
مطلق: ويكون في العشر كلها وأيام التشريق.
مقيد: بدبر الصلاة المكتوبة والنافلة، مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق انظر: ( مجموع الفتاوى 24/20)، ( الفتح 2/536)، وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.
(2)                صفة التكبير : قد ثبت عن الصحابة أكثر من صيغة منها أثر ابن مسعود t: " أنه كان يكبر أيام التشريق : « اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ » " صحيح. انظر: الإرواء تحت ح (651).
(3)                صلاة العيد: وهي واجبة في الراجح من قولي العلماء وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأحد أقوال الإمام الشافعي ورواية عن الإمام أحمد وبه قال بعض المالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختيار تلميذه ابن القيم-رحمهم الله-. انظر: الشرح الممتع" (5/152).
(4)                صفة صلاة العيد: صلاة العيد ركعتان، لحديث ابْنِ عُمَرَ t قَالَ:((صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ e )) صحيح ابْنُ مَاجَهْ ح (1063)، يُكبِّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة الانتقال صحيح ابْنُ مَاجَهْ ح (1278)، ويستحب بين كل تكبيرتين أن يقول:(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويصلي على النبي e ) لما ورد عن ابن مسعود t قال: (( بين كل تكبيرتين حمد لله U، وثناء على الله)) وحسنه العلامة الألباني في "القول البديع". 
(5)                الأضحية: والأضحية من خير القربات في يوم العيد، واختلف العلماء في حكمها، والصحيح أنها سنة مؤكدة "  يُكْرَه تَرْكهَا مَعَ الْقُدْرَة " ، والله أعلم . " فتح الباري " ( 10/6 )، فعَنْ أَنَسٍ t قَالَ : " ضَحَّى النَّبِيُّ e بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا " متفق عليه . ( الصفحة هي جانب العنق ) . والسنة أن يشهد المضحي أضحيته، وأن يباشرها بنفسه، وأن يأكل منها شيئاً كما فعل النبي e. وإن وكَّل غيره جاز، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي e نحر بيده ثلاثاً وستين من هديه في الحج ، ووكَّل علياً رضي الله عنه في البقية، ولأن الأصل هو الجواز و لا دليل على منعه .
(6)                وإذا دخلت العشر حرم على من أراد أن يضحي أخذَ شيء من شعره أو أظفاره أو بشرته حتى يذبح أضحيته؛ لحديث أم سلمة-رضي الله عنها- أن النبي e قال:" إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا " رواه مسلم، وفي رواية له:" إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ"،وهذا النهي مختص بصاحب الأضحية، أما المضحى عنهم من الزوجة والأولاد فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي e ذكر المضحي، ولم يذكر المضحى عنهم . ومن أخذ شيئاً من شعره أو أظفاره في العشر متعمداً من غير عذر وهو يريد أن يضحي فإن ذلك لا يمنعه من الأضحية، ولا كفارة عليه، ولكن عليه التوبة إلى الله . انظر: أحكام الأضحية لابن عثيمين-رحمه الله.

     أخي القارئ الكريم فلنحرص على الخير في هذه الأيام حتى نكون أهلاً بقبول دعوة رسول الله e لنا، فإن نبينا u يدعو لنا من غير أن يرانا، وذلك لحديث عائشة-رضى الله عنها- قالت: لما رأيت من النبي e طيب نفس، قلت: يا رسول الله، ادع الله لي، فقال:« اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ما أسرت وما أعلنت»، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله e: « أيسرك دعائي؟»، فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك فقال e: « والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة »الصحيحة ح (2254). فتأمل أخي القارئ، نبيك يدعو لك بالمغفرة بدون أن يراك، فاحرص على أسباب المغفرة حتى تسعد بجواره في جنات النعيم .انظر: " العشر من ذي الحجة" لمهران ماهر ، "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" د / عرفات محمد بتصرف زيادة ونقص.

وَآَخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

انتهاء في
3/ من ذي القعدة / 1431هـ
الموافق 11/ من أكتوبر / 2010م