جديدالموقع

الابهار بعدم تعارض حديث الغلس والإسفار









بِسْمِ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أجمَعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَعَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: « لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي الفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ المُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ؛ مِنَ الغَلَسِ (1 )» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2 ).
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« أَسْفِرُوا( 3) بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ » صَحِيحٌ ( 4).
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ فِي وَقْتِ صَلاَةِ الْفَجْرِ: الْإِسْفَار، أَم التَّغْلِيس ؟
قَالَ الْإِمَامُ التِّرْمِذِىُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَقِبِ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: وَقَدْ رَأَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالتَّابِعِينَ الإِسْفَارَ بِصَلاَةِ الْفَجْرِ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِىُّ.
وَقَالَ: الشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعْنَى الإِسْفَارِ أَنْ يَضِحَ الْفَجْرُ فَلاَ يُشَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ مَعْنَى الإِسْفَارِ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ.
وَقَالَ الْعَلاَّمَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الثمر المستطاب - (1 / 81- 85): الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ » أي: اخرجوا منها في وقت الإسفار وذلك بإطالة القراءة فيها، وهذا التأويل لا بد منه ليتفق قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هذا مع فعله الذي واظب عليه من الدخول فيها في وقت الغلس كما سبق وهو الذي رجحه الحافظ ابن القيم في (إعلام الموقعين)، وسبقه إلى ذلك الإمام الطحاوي من الحنفية وأطال في تقرير ذلك (1/ 104 - 109) وقال: (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى)، وإن كان ما نقله عن الأئمة الثلاثة مخالفا لما هو المشهور عنهم في كتب المذهب من استحباب الابتداء بالإسفار، وقد مال إلى هذا الجمع أيضا من متأخري الأحناف العلامة أبو الحسنات اللكنوي علامة الهند المتوفى (1304 هـ) في (التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد الشيباني) (42 - 44)، وَقَدْ عَلِمْتَ بما سلف أنه ليس المعنى (أَسْفِرُوا) ابتداء بل انتهاء، إلا أنه يعكر على هذا المعنى ما أخرجه ابن أبي حاتم في (العلل) (1/ 139 و 143 - 144) عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لِبِلاَلٍ:« أَسْفِرْ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى يَرَى الْقَوْمُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِمْ »، وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (3/ 427) م (4/ 76) د (1/ 305) ن (2/ 47) حم (1/ 426 و 434)، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: « مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا »، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (3/ 467) وأحمد (418 و 449) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا[أَيِ الْمُزْدَلِفَةِ]، فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ الفَجْرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:« إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا، فِي هَذَا المَكَانِ، المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاَةَ الفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ»، فهذه الرواية تبين أن قوله في الرواية الأولى:(( وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا))، ليس على ظاهره لقوله في هذه:(( ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الفَجْرُ ))، وهذا كقول جابر في حديثه الطويل:« وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ»، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فالمراد إذن أنه صلى الفجر قبل ميقاتها المعتاد أي: إنه غلَّس تغليسًا شديدًا يخالف التغليس المعتاد، إلى حد أن بعضهم كان يشك بطلوع الفجر، ولذلك قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ (3/ 413):(( وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ مَنَعَ التَّغْلِيسَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ التَّغْلِيسُ بِهَا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَصَلَّى الصُّبْحَ مَعَ ذَلِكَ بِغَلَسٍ، وَأَمَّا بِمُزْدَلِفَةَ فَكَانَ النَّاسُ مُجْتَمِعِينَ وَالْفَجْرُ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ فَبَادَرَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا بَزَغَ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ طُلُوعُهُ كما في الرواية الثانية )). أ. هـ
ثُمَّ قَالَ-رَحِمَهُ اللَّهُ- في" إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل " (1/287): (( وخلاصة القول أن الحديث إنما يتحدث عن وقت الخروج من الصلاة لا الدخول، فهذا أمر يستفاد من الأحاديث الأخرى، وبالجمع بينها وبين هذا، نستنتج أن السنة الدخول في الغلس، والخروج في الإسفار )).
هذا والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ-رَحِمَهُ اللَّهُ-: الْغَلَسُ اخْتِلَاطُ ضِيَاءِ الصُّبْحِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ. عون المعبود (2/ 65).ط. دار الكتب العلمية - بيروت.
2- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، كِتَابُ الصَّلاَةِ، بَابٌ: فِي كَمْ تُصَلِّي المَرْأَةُ فِي الثِّيَابِ، برقم 327، وَكِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ، بَابُ وَقْتِ الفَجْرِ، برقم 578، وَكِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى المَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالغَلَسِ، برقم 867، وَبَابُ سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي المَسْجِدِ، برقم 827، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ، بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِالصُّبْحِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهُوَ التَّغْلِيسُ، وَبَيَانِ قَدْرَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، برقم 645.
3- قَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ أَيْ طَوِّلُوهَا بِالْقِرَاءَةِ إِلَى الْإِسْفَارِ وَهُوَ إِضَاءَةُ الصُّبْحِ انْتَهَى. عون المعبود (2/ 66).ط. دار الكتب العلمية - بيروت.
4- أَخْرَجَهُ: أخرجه ابن أبى شيبة (1/283 ، رقم 3242) ، والترمذى (1/289 رقم 154) وقال : حسن صحيح . والطبرانى (4/249 ، رقم 4283) وابن حبان (4/357 ، رقم 1490) والبيهقى (1/457 ، رقم 1989) والنسائى (1272 رقم 548) .وصححه الْعَلاَّمَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، في صحيح الجامع، ح (970)، وفي الصحيحة تحت ح (1115).
رابط: https://www.sahab.net/forums/index.php?showtopic=163205