جديدالموقع

اَلْتَعْلِيِقَاَتُ السَّنِيَّةُ عَلَى رِسَالَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لِأَهْلِ حَلَبِ السُّورِيَّةِ











     كَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ-رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَمَّا قَدِمَ الْعَدُوُّ مِنْ التَّتَارِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إلَى حَلَبَ وَانْصَرَفَ عَسْكَرُ مِصْرَ وَبَقِيَ عَسْكَرُ الشَّامِ .
     بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً، وَنَصَرَهُمْ نَصْرًا عَزِيزًا، وَفَتَحَ عَلَيْهِمْ فَتْحًا كَبِيرًا، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْه سُلْطَانًا نَصِيرًا، وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، مُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
     فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلِيقَتِهِ، وَخَيْرَتِهِ مِنْ بَرِّيَّتِهِ، مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
     أَمَّا بَعْدُ :
     فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مِنْ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمُصَدِّقًا لَهَا، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا .
     فَلَيْسَ دِينٌ أَفْضَلَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ، وَلَا كِتَابٌ أَفْضَلَ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلَا أُمَّةٌ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِمْ.
     بَلْ كِتَابُنَا وَنَبِيُّنَا وَدِينُنَا وَأُمَّتُنَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ وَدِينٍ وَنَبِيٍّ وَأُمَّةٍ .
     فَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ. { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }[النمل: 40]، وَاحْفَظُوا هَذِهِ الَّتِي بِهَا تَنَالُونَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَتُعْرِضُونَ عَنْ حِفْظِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَرِعَايَتِهَا، فَيَحِيقُ بِكُمْ مَا حَاقَ بِمَنْ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .
     فَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الشَّاكِرِينَ وَالْمُنْقَلِبِينَ حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]، أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ الْأُمَّةِ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَعَ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ حَتَّى خَلَصَ إلَيْهِ الْعَدُوُّ، فَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ، وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقُتِلَ وَجُرِحَ دُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ لِذَبِّهِمْ عَنْهُ، وَنَعَقَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَزَلْزَلَ ذَلِكَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ، حَتَّى انْهَزَمَ طَائِفَةٌ وَثَبَّتَ اللَّهُ آخَرِينَ حَتَّى ثَبَتُوا.
     وَكَذَلِكَ لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَزَلْزَلَتْ الْقُلُوبُ، وَاضْطَرَبَ حَبَلُ الدِّينِ، وَغَشِيَتْ الذِّلَّةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِمْ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَالَ:(( مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]، فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَلَا يُوجَدُ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَتْلُوهَا.
     وَارْتَدَّ بِسَبَبِ مَوْتِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الضَّعْفِ جَمَاعَاتٌ مِنْ النَّاسِ: قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِهِ، فَقَالُوا: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي. وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَآمَنُوا مَعَ مُحَمَّدٍ بِقَوْمٍ مِنْ النَّبِيِّينَ الْكَذَّابِينَ، كمسيلمة الْكَذَّابِ، وطليحة الأسدي، وَغَيْرِهِمَا، فَقَامَ إلَى جِهَادِهِمْ الشَّاكِرُونَ، الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ، أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالطُّلَقَاءِ، وَالْأَعْرَابِ، وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِمْ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة: 54]، هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا.
     وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ، وَسَيَعْمَلُ بِهَا آخَرُونَ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الشَّاكِرِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ، الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الدِّينِ، وَيَأْخُذُونَ بَعْضَهُ وَيَدَعُونَ بَعْضَهُ، كَحَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ؛ فَإِنَّ عَسْكَرَهُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ طَوَائِفَ:
     كَافِرَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى كُفْرِهَا: مِنْ الكرج، وَالْأَرْمَنِ، وَالْمَغُولِ.
     وَطَائِفَةٍ كَانَتْ مُسْلِمَةً فَارْتَدَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَانْقَلَبَتْ عَلَى عَقِبَيْهَا: مِنْ الْعَرَبِ، وَالْفُرْسِ، وَالرُّومِ، وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
     فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُمْ حَتْمًا مَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَلَا هُدْنَةٌ، وَلَا أَمَانٌ، وَلَا يُطْلَقُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُفَادَى بِمَالِ وَلَا رِجَالٍ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا يسترقون؛ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَيُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَالْأَعْمَى، وَالزَّمِنِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَا نِسَاؤُهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
     وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدُ لَهُ أَمَانٌ وَهُدْنَةٌ، وَيَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْمُفَادَاةُ بِهِ إذَا كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ إذَا كَانَ كِتَابِيًّا أَنْ يُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ، وَيُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُقْتَلُ نِسَاؤُهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ.
     فَالْكَافِرُ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى كُفْرِهِ. وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فِيهِمْ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ. فَهَذَانِ صِنْفَانِ.
     وَفِيهِمْ أَيْضًا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَانْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَرَائِعَهُ؛ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَالْكَفِّ عَنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْتِزَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَضَرْب الْجِزْيَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَغَيْر ذَلِكَ.
     وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ، وَكَمَا قَاتَلَ الصَّحَابَةُ أَيْضًا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَيْثُ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَصْفِهِمْ:(( تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، [فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ] )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ([1] وَقَالَ:(( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ([2]وَقَالَ:(( هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ )) صَحِيحٌ ([3] فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صِيَامِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ. أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِقِتَالِهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي قِتَالِهِمْ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ؛ فَإِنَّ مَعَهُمْ مَنْ يُوَافِقُ رَأْيُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ رَأْيَ الْخَوَارِجِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ.
     وَفِيهِمْ صِنْفٌ رَابِعٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَهُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَبَقُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالِانْتِسَابِ إلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُرْتَدُّونَ، وَالدَّاخِلُونَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِشَرَائِعِهِ، وَالْمُرْتَدُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِ لَا عَنْ سَمْتِهِ: كُلُّهُمْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ - الَّتِي هِيَ كِتَابُهُ وَمَا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ - هِيَ الْعُلْيَا. هَذَا إذَا كَانُوا قَاطِنِينَ فِي أَرْضِهِمْ، فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَرَاضِي الْإِسْلَامِ: مِنْ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالرُّومِ، فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوكُمْ وَصَالُوا عَلَيْكُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا: { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 13-15].
     وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ:(( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ([4]  وَثَبَتَ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ.
     فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ: الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ، وَهُمْ الْمُجَاهِدُونَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. وَالطَّائِفَةُ الْمُخَالِفَةُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، وَمَنْ تَحَيَّزَ إلَيْهِمْ مِنْ خبالة الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَالطَّائِفَةُ الْمُخَذِّلَةُ، وَهُمْ الْقَاعِدُونَ عَنْ جِهَادِهِمْ؛ وَإِنْ كَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ. فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ أَيَكُونُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ أَمْ مِنْ الْخَاذِلَةِ أَمْ مِنْ الْمُخَالِفَةِ ؟ فَمَا بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ .
     وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِهَادَ فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِهِ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }[التوبة: 52]، يَعْنِي: إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ. فَمَنْ عَاشَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ كَانَ كَرِيمًا لَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا، وَحُسْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ فَإِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ)) رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ صَحِيحٌ ([5]). وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ . مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ )) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ([6]). فَهَذَا ارْتِفَاعُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ )) صَحِيحٌ ([7] (( وَقَالَ رَجُلٌ : أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ لَا تُفْطِرُ وَتَقُومَ لَا تَفْتُرُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ([8]). وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
     وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّطَوُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ. فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ، وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ، وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ.
     وَالْمُرَابَطَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (( لَأَنْ أُرَابِطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ )) صَحِيحٌ ([9] فَقَدْ اخْتَارَ الرِّبَاطَ لَيْلَةً عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَفْضَلِ اللَّيَالِي عِنْدَ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَصْحَابُهُ يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ مَكَّةَ؛ لَمَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُرَابِطِينَ بِالْمَدِينَةِ. فَإِنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمَقَامُ بِمَكَانِ يُخِيفُهُ الْعَدُوُّ، وَيُخِيفُ الْعَدُوَّ فَمَنْ أَقَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ دَفْعِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مُرَابِطٌ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ )) رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحُوهُ ([10] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ)) ([11]يَعْنِي مُنْكَرًا وَنَكِيرًا. فَهَذَا فِي الرِّبَاطِ فَكَيْفَ الْجِهَادُ.
     وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانٌ جَهَنَّمَ فِي وَجْهِ عَبْدٍ أَبَدًا )) صَحِيحٌ ([12] وَقَالَ: (( مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ )) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ([13] فَهَذَا فِي الْغُبَارِ الَّذِي يُصِيبُ الْوَجْهَ وَالرِّجْلَ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ؛ كَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ وَالْوَحْلِ.
     وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَعَلَّلُونَ بِالْعَوَائِقِ، كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ }[التوبة: 81]، وَهَكَذَا الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَيُقَالُ: نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ بَرْدًا. كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (( اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّي أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ([14])، فَالْمُؤْمِنُ يَدْفَعُ بِصَبْرِهِ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهَا، وَالْمُنَافِقُ يَفِرُّ مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا وَبَرْدِهَا حَتَّى يَقَعَ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا.
     وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَقْهُورُونَ مَقْمُوعُونَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَاصِرُنَا عَلَيْهِمْ، وَمُنْتَقِمٌ لَنَا مِنْهُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَأَبْشِرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139]، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَيَقَّنَّاهُ وَتَحَقَّقْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف: 10 - 14].
     وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَنْ أَحْيَاهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي يُجَدِّدُ اللَّهُ فِيهِ الدِّينَ، وَيُحْيِي فِيهِ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، حَتَّى يَكُونَ شَبِيهًا بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِذَلِكَ، كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي حَقِيقَتُهَا مِنْحَةٌ كَرِيمَةٌ مِنْ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا نِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ، حَتَّى وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمْ - حَاضِرِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِهِمْ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
     وَلَا يَفُوتُ مِثْلُ هَذِهِ الْغُزَاةِ إلَّا مَنْ خَسِرَتْ تِجَارَتُهُ، وَسَفَّهَ نَفْسَهُ، وَحُرِمَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ عَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى، كَالْمَرِيضِ، وَالْفَقِيرِ، وَالْأَعْمَى، وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ عَاجِزٌ بِبَدَنِهِ فَلْيَغْزُ بِمَالِهِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (( مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ([15])، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا بِبَدَنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَتَجَهَّزُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً، أَوْ صِلَةً، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَالٌ حَرَامٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ لِجَهْلِهِ بِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ بِيَدِهِ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ أَوْ عَوَارٍ قَدْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَلْيُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْرِفُهَا.
     وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ فَأَعْظَمُ دَوَائِهِ الْجِهَادُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }. وَمَنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحَرَامِ وَالتَّوْبَةَ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلْيُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ إلَى خَلَاصِهِ، مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَجْرِ الْجِهَادِ.
     وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ فِي دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَحَمِيَّتِهَا فَعَلَيْهِ بِالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِلْقَبَائِلِ وَغَيْرِ الْقَبَائِلِ - مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ، وَهِلَالٍ، وَأَسَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - كُلُّ هَؤُلَاءِ إذَا قُتِلُوا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ فِي النَّارِ، كَذَلِكَ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُ قَالَ: (( إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ )) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ([16])، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمية : يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةِ وَيَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ([17] وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا فَسَمِعَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَجُلًا يَقُولُ : يَا لِفُلَانِ فَقَالَ : اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؛ مَا كُنْت فَاحِشًا. فَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- )). رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ([18])، وَمَعْنَى قَوْلِهِ:(( مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ )) يَعْنِي يَعْتَزِي بِعِزْوَاتِهِمْ، وَهِيَ الِانْتِسَابُ إلَيْهِمْ فِي الدَّعْوَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا لِقَيْسِ! يَا ليمن! وَيَا لِهِلَالِ! وَيَا لِأَسَدِ، فَمَنْ تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ، أَوْ مَذْهَبِهِ، أَوْ طَرِيقَتِهِ، أَوْ قَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَإِنَّ كِتَابَهُمْ وَاحِدٌ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبُّهُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
     قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ }[آل عمران: 102 - 106]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالْبِدْعَةِ.
     فَاَللَّهَ! اللَّهَ! عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ([19])، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ؛ يَجْمَعْ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَحْصُلْ لَكُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَصَرَفَ عَنَّا وَعَنْكُمْ سَبِيلَ مَعْصِيَتِهِ، وَآتَانَا وَإِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَوَقَانَا عَذَابَ النَّارِ، وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
     وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ([20]).





[1]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ اسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ وَالمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ، بَابُ قَتْلِ الخَوَارِجِ وَالمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، برقم 6931، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ ذِكْرِ الْخَوَارِجِ وَصِفَاتِهِمْ، برقم 1064 من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قُلْتُ: وأما ما بين المعكوفتين فحديث مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ اسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ وَالمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ، بَابُ قَتْلِ الخَوَارِجِ وَالمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، برقم 6930، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قَتْلِ الْخَوَارِجِ، برقم 1066، من حديث عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[2] - أَخْرَجَهُ:  مُسْلِمٌ، كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قَتْلِ الْخَوَارِجِ، برقم 1066، من حديث عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يلفظ: ((لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ، مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ )).
[3] - أَخْرَجَهُ: الطيالسى (ص 60 ، رقم 448) ، وأحمد (5/176 ، رقم 21571) ، ومسلم (2/750 ، رقم 1067) ، والدارمى (2/281 ، رقم 2434) ، وابن حبان (15/135 ، رقم 6738) .
[4]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ» يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ "، برقم 7311، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ»، برقم 1920 من حديث ثَوْبَانَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
    قُلْتُ: وَلَيْسَ لَهُمُ اَسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ سِوَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَهي:
أَوَّلاً: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: فأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ :((...يَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (3/157).ط. الملك فهد).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (3/279).ط. الملك فهد).
     وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-:(( فَلَا عُدُولَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (3/130).ط. الملك فهد).
    ثَانِيًا: الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ: هِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي وَصَفَهَا النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِالنَّجَاةِ حَيْثُ قَالَ:(( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ ))( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((...وَلِهَذَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ . وَأَمَّا الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشُّذُوذِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (3/245 ، 246).ط. الملك فهد).
    ثَالِثًا: الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ: قُلْتُ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةِ وَالطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ.
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-:(( وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَتْبُوعٌ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهْم أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْظَمُهُمْ تَمْيِيزًا بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَأَئِمَّتُهُمْ فُقَهَاءُ فِيهَا [ وَأَهْلُ ] مَعْرِفَةٍ بِمَعَانِيهَا وَإتِّبَاعًا لَهَا: تَصْدِيقًا وَعَمَلًا وَحُبًّا وَمُوَالَاةً لِمَنْ وَالَاهَا وَمُعَادَاةً لِمَنْ عَادَاهَا الَّذِينَ يَرْوُونَ الْمَقَالَاتِ الْمُجْمَلَةَ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَلَا يُنَصِّبُونَ مَقَالَةً وَيَجْعَلُونَهَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَجُمَلِ كَلَامِهِمْ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بَلْ يَجْعَلُونَ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (3/247).ط. الملك فهد).
    رَابِعًا: أَهْلُ الْحَدِيثِ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-:(( وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ: مَحَبَّةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيهِمَا وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ مُوجِبِهِمَا ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (4/95).ط. الملك فهد).
    خَامِسًا: أَهْلُ الأَْثَرِ وَالاِتِّبَاعِ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-:(( فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ: هُمْ أَعْلَمُهُمْ بِآثَارِ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لِذَلِكَ فَالْعَالِمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُتَّبِعُونَ لَهَا هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ سَائِرَ الْأُمَّةِ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ وَيَمْتَازُونَ عَنْهُمْ بِمَا اُخْتُصُّوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرَّسُولِ؛ مِمَّا يَجْهَلُهُ غَيْرُهُمْ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ ))( " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (4/26).ط. الملك فهد).
     وَقَالَ-رَحِمَهُ اللهُ-:(( وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَخَصُّ بِالرَّسُولِ وَإتْبَاعِهِ. فَلَهُمْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَتَخْصِيصِهِ إيَّاهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَتَضْعِيفِ الْأَجْرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:" أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ"))(" مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (4/140).ط. الملك فهد).
     سَادِسًا: أهلُ الاِسْتِقَامَةِ: قَال اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت: 30 - 32].
     سَابِعًا: الْغُرَبَاءُ النُّزَّاعُ مِنْ الْقَبَائِلِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ ح (145)، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ». قَالَ قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ « قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ » (جة) 3988 [قال الألباني]: صحيح.والمراد بالنزَّاع من القبائل من هداهم الله إلى الطريق الحق والصراط السوي وهي العقيدة السلفية الصحيحة.
     وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ» (رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم وهو ثقة قاله الهيثمي في المجمع).
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ:« إِنَّ الإِيمَانَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ، وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، لَيَأْرِزَنَّ الإِيمَانُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِى جُحْرِهَا »( عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى مسند أحمد والبزار وأبي يعلى وقال: ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« إِنَّ الإِِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ »، قَالَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:« الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ » (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في " الصحيحة " (3/267) برقم (1273)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ:« طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، فَقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِى أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» (رواه أحمد والطبراني في الأوسط وقال: أناس صالحون قليل. قلت:قال العلامة الألباني-رحمه الله-: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3921 في صحيح الجامع ).
[5] - أَخْرَجَهُ: أحمد (4/131 ، رقم 17221)، والترمذى (4/187 ، رقم 1663)، وقال: حسن صحيح غريب . وابن ماجه (2/935 ، رقم 2799)، والبيهقى فى شعب الإيمان (4/25 ، رقم 4254)، وعبد الرزاق(5/265 ، رقم 9559). انظر صَحِيح الْجَامِع: 5182، وصَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1374. من حديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[6] - أَخْرَجَهُ: الْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ دَرَجَاتِ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُقَالُ: هَذِهِ سَبِيلِي وَهَذَا سَبِيلِي، برقم 2790. من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بلفظ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ».

[7] - أَخْرَجَهُ: البخارى (3/1027 ، رقم 2635) ، ومسلم (3/1498 ، رقم 1878) ، والترمذى (4/164 ، رقم 1619) وقال : حسن صحيح ، وابن حبان (10/482 ، رقم 4621) . وأخرجه أيضًا : مالك (2/443 ، رقم 956) ، وابن أبى شيبة (4/202 ، رقم 19314) ، وأحمد (2/459 ، رقم 9922) ، والنسائى (6/17 ، رقم 3124) ، أبو عوانة (4/457 ، رقم 7324) . من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[8]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ فَضْلِ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، برقم 2785، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، برقم 1878 من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[9] - أَخْرَجَهُ: ابن حبان (10/462 رقم 4603) وأخرجه أيضًا : البيهقى فى شعب الإيمان (4/40 ، رقم 4286) ، والديلمى (4/168 ، رقم 6524)، بلفظ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:«مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» صَحِيح الْجَامِع: 6636 ,الصَّحِيحَة: 1068 صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب:1223.
[10] - أَخْرَجَهُ: أحمد (1/65 ، رقم 470) ، والترمذى (4/189 ، رقم 1667) وقال : حسن صحيح غريب . والنسائى (6/39 ، رقم 3169) ، وابن حبان (10/469 ، رقم 4609) ، والحاكم (2/156 ، رقم 2635) ، والضياء (1/451 ، رقم 325) وقال : إسناده صحيح . وأخرجه أيضًا : الدارمى (2/277 ، رقم 2424) ، وعبد بن حميد (ص 47 ، رقم 51) . من حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- انظر الصحيحة تحت حديث: 2857 ، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1224، وقد كان الألباني ضعَّفَ الحديث في ضعيف الجامع: 3084، ثم تراجع عن تضعيفه.
[11] - أَخْرَجَهُ:  مُسْلِمٌ، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، برقم 1913.
[12] - أَخْرَجَهُ: ابن أبى شيبة (4/208 ، رقم 19364) ، وهناد (1/269 ، رقم 467) ، والبيهقى فى شعب الإيمان (4/27 ، رقم 4257) . وأخرجه أيضًا : سعيد بن منصور فى كتاب السنن (2/189 ، رقم 2401) ، وأحمد (2/256 ، رقم 7474) ، والبيهقى (9/161 ، رقم 18289) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. انظر صحيح الجامع: 7617 , وصحيح الترغيب والترهيب: 2606.
[13] - أَخْرَجَهُ:  الْبُخَارِيُّ ، كِتَابُ الجُمُعَةِ، بَابُ المَشْيِ إِلَى الجُمُعَةِ، برقم 907. من حديث يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْأَنْصَارِيِّ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[14]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ صِفَةِ النَّارِ، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، برقم 3260، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ، بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ، وَيَنَالُهُ الْحَرُّ فِي طَرِيقِهِ، برقم 617 من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[15]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ، برقم 2843، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ فَضْلِ إِعَانَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ، وَخِلَافَتِهِ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، برقم 1895 من حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[16]- أَخْرَجَهُ: اَلْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابُ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، برقم 31، وَمُسْلِمٌ ، كِتَابُ  الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، بَابُ إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، برقم 2888 من حديث أَبِي بَكْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[17] - أَخْرَجَهُ:  مُسْلِمٌ، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وتحذير الدعاة إلى الكفر، برقم 1850، من حديث جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
[18]- أَخْرَجَهُ: البخاري في " الأدب المفرد " ( 963 ، 964 ) و النسائي في " السير " من" السنن الكبرى " له ( 1 / 36 / 1 - 2 ) و أحمد في " المسند " ( 5 / 136 ) وأبو عبيد في " غريب الحديث " ( ق 22 / 2 و 53 / 1 ) وابن مخلد في " الفوائد " ( ق 3 / 1 ) والهيثم بن كليب في " مسنده " ( ق 187 / 1 ) والطبراني في " المعجم الكبير " ( ق 27 / 2 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 4 / 99 / 2 ) والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " ( 1 / 407 )  من حديث أبي بن كعب-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. انظر صحيح الجامع: 568، والصحيحة: 269.
[19]- قُلْتُ: لقد دعت شريعتنا الغراء إلى الوحدة والاجتماع، كما نهت عن الفرقة والشقاق، وما ذاك إلا لخطرهما، وفي حرمة التفرق والاختلاف، وبيان ما يترتب عليه من العذاب العظيم من العظيم، تقريعاً وتنفيرا، يقول الله سبحانه :{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران/105].
    كما حذّرت من الفرقة، إخباراً فيه إعظاماً، أنها من سمات المشركين – والشرك عظيم، وأهله في خطر عظيم- قال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}[الروم/31، 32]، وبيّنت أن جماعة المسلمين جماعة واحدة، موِّحدة لربها، متبعة لنبيها، مصداق ذلك قوله تعالى :{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء/92]، وفي التذييل إشارة إلى أن في الاجتماع والألفة والتعاون تحقيق العبودية لله تعالى على وجه مرضي إذا ما تحققت شروطها، كما فيها الإيماءة إلى ضرورة التواصي بذلك – وهذا منه .
    إذاً فالدعوة إلى الاجتماع ونبذ الفراق واللجاج والعمل على اتحاد المسلمين عبادة نتقرب بها إلى الله - عز وجل- وسبيل للوصول إلى درجة التقوى، قال سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون/52].
    وشّرف الله تعالى المجتمعين على نصرته، وجعلهم سبحانه وتعالى أهل فلاح، واصفا لهم بأنهم حزباً واحدا، وناط بذا الظفر والغلبة والنصرة على أعدائهم – شياطين الإنس والجان- فقال :{ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة/22]، وقال أيضاً:{ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة/56].
    وهذه الغلبة الموعودة ثابتة لحزب الله بالحجة والبرهان في كل صقع وآن، وتتبعها الغلبة بالسيف والسنان في كل ميدان- إما نصر وإما شهداء، وفي كل خير-  قال تعالى :{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات/173].
    ومع كونها عامة في الدنيا - بدلالة الإطلاق- فهي أيضاً كذلك في الآخرة، ويا له ساعتئذ من انتصار!!!قال سبحانه:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر/51].
     فهذه إشارات لطيفة، وكرامات كريمة، وبشارات عظيمة؛ لمن اتصفوا بأنهم من جند الله القهار، وتحلَّوا بصادق الإيمان، واجتمعوا عليه وله .
    وهذا الحزب هو المعبَّر عنه بـ " الجماعة " في حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِى النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِى الْجَنَّةِ وَهِىَ الْجَمَاعَةُ ))( صحيح: أخرجه أبو داود (4/198 ح 4597) من حديث معاوية-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/345) والعلامة الألباني في السلسلة  الصحيحة رقم (204) ).
    ومن شواهده لفظ " مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" .
    وهو مدلول حديث العرباض بن سارية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-المرفوع : (( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ))( صحيح: أخرجه أحمد (4/127-128) وأبو داود (4/200) ح(4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43) وغيرهم وصححه العلامة الألباني في " صحيح سنن أبي داود" ح (4607) (4/200)).
    ومما امتاز به هذا الحزب؛ إشارة إلى وجوب إتباعه : أنه حزب واحد فالح رابح - وما عداه فاجر خاسر- لاقتفائه وحي معصوم، وإتباعه حكم مبرور، وتصديقه خبر محمود، ورجائه عد مصدوق .
    حزب راشد بل رشيد، سالِم مسلَّم : إذ واضعه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وحياً من رب العالمين –سبحانه- فانتفى بذلك الضلال، وثبتت السلامة والفلاح .
    فيجب على كل مسلم ينشد الحق، ويسعى في فكاك نفسه من عذاب الله تعالى أن يلزم غَرزَ هذا الحزب، وينأى بنفسه عن شق عصاه، بإنشاء حزبِ شيطاني يوسوس ويأزّ؛ إفسادا وعصيانا .
    فقد حدثتنا السنة المقدسة حديث صدق، صحيحاً ليس بعليل، هادياً بعيداً عن التضليل، وأخبرت أن الدعوة إلى التفرق والتشرذم هي دعوة شيطانية، فهي والحالة هذه موجبة للمجانبة والمباعدة، فبيّن لنا صاحبها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للحذر ومن ثم التحذير أن جهد الشيطان في التحرش بين المؤمنين، تفريقاً وتمزيقاً، فعن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ))( رواه الإمام الترمذي، وغيره، وانظر "صحيح الجامع"برقم (1651) وزاد في رواية البخاري، بعد (المصلون): " في جزيرة العرب").
    ولا تغرنّك-أخي- دعوى أهل الفرقة والشقاق، من المتصوفة وغيرها من أهل النفاق، بأنهم على الكتاب والسنة موافقة طباق، فإنه سمّ في صورة ترياق .
     وما أجمل ما أجمله العلامة أبو المظفر السمعاني-رحمه الله تعالى- فيما نقله عن التيمي -رحمه الله تعالى- في "الحجة" (2/223-225):((إن كل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم كلهم مدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ما جاء به محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الحق، غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله)) .
    فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي يعتقده وينتحله .
    غير أن الله أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف، وقرناً عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذه أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
    ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس من الدين المستقيم والصراط القويم، إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث .
    وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه؛ لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئاً من الكتاب والسنة، عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه!!
    فإن اضطروا إلى قبوله؛ حرفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستنكرة، فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون .
    وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة إمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهما من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم؛ فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق" ("القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد" ص (120)).

[20]- انْظُرْ: "مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى"(28/ 410-423).ط. الملك فهد.


كَتَبَهُ
أَبُو مَرْيَمَ أَيْمَنُ بْنُ دِيَابٍ بْنِ مَحْمُودٍ اَلْعَابِدِينِي
غَفَرَ اللَّـهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ