جديدالموقع

إتحاف الانام بفضائل شهر شعبان

الحمد لله رب العالمين مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، جاعل الأيام والأوقات مناسبات للطاعات ونيل الدرجات، فما يحل بالمؤمن موسم من مواسم الخيرات ثم ينقضي إلا حباه الله تعالى بموسم آخر يجدد فيه إيمانه وتعلقه بالله الواحد سبحانه قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحِيْحَةِ تحت رَقَمِ (1890)، وفي هذه الأيام القليلة المباركة نستقبل شهراً من شهور الطاعات يغفل عنه الكثير من الناس ، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما سأله حِبُّه وابن حِبِّه أُسَامَة بْنُ زَيْدٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ:« قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحِيْحَةِ بِرَقَمِ (1898)، وَصَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (3711).
فَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان يكثر صيام شعبان، كما قالت عائشة-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:« كانَ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَصُومُ حتَّى نَقُولُ لاَ يُفطِرْ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ، فمَا رَأَيتُ رَسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهرٍ إلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكثَرَ صِيَامًا مِنهُ في شَعْبانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وعنها-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قالت:« لَمْ يَكُن النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كلَّهُ وَكانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فإنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ... » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فقد بيَّن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بفِعله وقولِه شدَّة اهتِمَامِه بهذا الشَّهر الفَضِيلِ، الذي نغفلُ ويَغفُلُ عنه الكثير من الناس ظنًّا منهم ألاَّ فضل في صيامه وأن المسلم لا يصوم إلا شهر رمضان وبعض أيام السنة، لكن الموفق من وفقه الله للاهتمام بهذا الشهر استعدادا لشهر الخيرات والبركات، ثم في الاجتهاد في صيامه فضائل وأحكام نبينها في هذا المقال والله المستعان.
أَوَّلًا: سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ:
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (4/ 213): (( وَسُمِّيَ شَعْبَانَ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي طَلَب الْمِيَاهِ أَوْ فِي الْغَارَات بَعْد أَنْ يَخْرُج شَهْر رَجَب الْحَرَام، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ )).
ثَانِيًا: اسْتِحْبَابُ صِيَامِهِ:
(1) عَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:« كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2) وَعَنْهَا-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:« لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّتْ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(3) وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ:« كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلاً » رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِرَقَمِ 1156.
(4) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:« مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ »، وعَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ : « مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلا قَلِيلاً بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (4628) ، وَصَحِيْحِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ، بِرَقَمِ (1024 ، 1025).
(5) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (4628) ، وَصَحِيْحِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ، بِرَقَمِ (1024 ، 1025).
(6) وَعَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:« كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، بِرَقَمِ (2101)، وَصَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (4628).
(7) وَعَنْ أنس بْنَ مَالِكٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:« كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ فَلا يُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ مَا فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُفْطِرَ الْعَامَ، ثُمَّ يُفْطِرُ فَلا يَصُومُ، حَتَّى نَقُولَ مَا فِي نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ الْعَامَ، وَكَانَ أَحَبُّ الصَّوْمِ إِلَيْهِ فِي شَعْبَانَ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيْحِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ، بِرَقَمِ (1023).
تَنْبِيْهٌ: ليس هناك تعارض بين الأحاديث السابقة وحديث النهي عن الصوم بعد نصف شعبان:
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« إِذَا بَقِىَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، بِرَقَمِ (2025)، وَالمِشْكَاةُ بِرَقَمِ (1974).
قَالَ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ-رَحِمَهُ اللهُ- في الجَامِعِ (2/107) عَقِبَ الحَدِيْثِ:(( وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُفْطِرًا فَإِذَا بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ شَيْءٌ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ لِحَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا يُشْبِهُ قَوْلَهُمْ حَيْثُ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( لا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إِلا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ ))، وَقَدْ دَلَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّمَا الْكَرَاهِيَةُ عَلَى مَنْ يَتَعَمَّدُ الصِّيَامَ لِحَالِ رَمَضَانَ )).
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (4/215):(( وَلا تَعَارُضَ بَيْن هَذَا وَبَيْن مَا تَقَدَّمَ مِنْ الأَحَادِيث فِي النَّهْي عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم أَوْ يَوْمَيْنِ، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ النَّهْي عَنْ صَوْم نِصْف شَعْبَانَ الثَّانِي، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تِلْكَ الأَيَّام فِي صِيَامٍ اِعْتَادَهُ . وَفِي الْحَدِيث دَلِيلٌ عَلَى فَضْل الصَّوْم فِي شَعْبَان ))، وعلى هذا فالسنة المقررة هي صيام شهر شعبان أو أكثره من مبتدأه إلى منتهاه، أما من لم يصمه من أوله ثم أراد الصيام بعد منتصفه فإن هذا هو الذي يتناوله النهي، كما أن النهي يتناول من أراد الصيام في آخر شعبان لاستقبال رمضان، والله تعالى أعلم .
شُبْهَةُ وَالرَّدُّ عَلَيْهَا: كَوْنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمْ يُكْثِرْ مِنْ الصَّوْم فِي الْمُحَرَّمِ مَعَ قَوْله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِرَقَمِ 1163 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وَإِكْثَاره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ صَوْم شَعْبَان:
قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (1/143): قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ )).
تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَفْضَل الشُّهُور لِلصَّوْمِ ، وَأمَّا عَنْ إِكْثَار النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ صَوْم شَعْبَان دُون الْمُحْرِم، فِيهِ جَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ فَضْلَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فِيهِ أَعْذَار، مَنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مَا مَنَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِيهِ. أنظر: " الفتح " (4/215)، وشرح مسلم (8/55).
أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصيام لمن فاته الصيام في شعبان :
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ لِرَجُلٍ:« هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا؟» قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِرَقَمِ 1161. وَسِرَرُ الشَّهْرِ: قِيلَ: أَوَّلُهُ، وَقِيلَ : وَسَطُهُ، وَقِيلَ: آخِرُ لَيْلَةٍ فِيهِ.
ثَالِثًا: الْحِكْمَةُ مِنْ صِيَامِهِ:
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ:« ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحِيْحَةِ بِرَقَمِ (1898)، وَصَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (3711).
وفي هذا الحديث فوائد عظيمة:
(1) أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان: يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولاً عنه وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك.
(2) فيه إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم
(3) وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولذلك فُضِلَ القيام في وسط الليل لغفلة أكثر الناس فيه عن الذكر.
(4) في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
(1) مِنْهَا: أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه ،
(2) وَمِنْهَا: أنه أشق على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس.
(3) وَمِنْهَا: إحياء السنن المهجورة خاصة في هذا الزمان وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِرَقَمِ 145 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِرَقَمِ 2948، وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه و يتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه ومنها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.
(5) أنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرفع العمل لله تعالى والعبد على أفضل حال وأحسنه وأطيبه لما في الصوم من فضائل عظيمة وليكون ذلك سببًا في تجاوز الله تعالى عن ذنوب العبد حال توسله بلسان الحال في هذا المقام. باختصار وتصرف من كتاب لطائف المعارف لابن رجب.
فَضْلُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ:
(1) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« يَطَّلِعُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، عَلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ »، وَصَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحِيْحَةِ بِرَقَمِ (1144)، وَصَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (1819).
(2) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:« إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ »، وَصَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحِيْحَةِ بِرَقَمِ (1144)، وَصَحِيحِ الْجَامِعِ بِرَقَمِ (1819).
قَالَ الْعَلاَّمَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والمشاحن : قال ابن الأثير : المُعاَدِي، والشحناء العَداوة . والتشاحن تفاعل منه، وقال الأوزاعي : أراد بالمشاحن ها هنا صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة . فِي الصَّحِيْحَةِ تحت رَقَمِ (1563).
(3) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:« إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ لِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ »، صَحَّحَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي صَحِيْحِ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ، بِرَقَمِ (2771).
في الأحاديث السابقة يبين لنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضيلة هذه الليلة المباركة، رزقنا الله تعالى فيها العفو والمغفرة، وهذا ما ورد فيها ولا يعني هذا أن نخصص هذه الليلة بعبادة معينة ، فإن تخصيصها بعبادة معينة لم يرد عليه دليل صحيح من الشرع، وفعل أي شيء في ليلتها بقصد التخصيص هو من البدع، كمن يخصص هذه الليلة بصلاة أو غير ذلك.
ومن البدع التي تحدث في ليلة النصف من شعبان:
ما اعتاده الناس من زيادة وقود القناديل الكثيرة من الأنوار الكهربائية في كثير من المساجد بمناسبة بعض المواسم والأعياد كأول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان وشهر رمضان كله والعيدين - محرم ممنوع لا سيما في العيدين فإن الأنوار فيهما تبقى متقدة إلى الضحوة فيهما.
وقد قال ابن الحاج-رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدخل (1/239): في أثناء الكلام على بدع ليلة النصف من شعبان:(( ألا ترى إلى ما فعلوه من زيادة الوقود الخارج الخارق حتى لا يبقى في الجامع قنديل ولا شيء مما يوقد إلا أوقده حتى إنهم جعلوا الحبال في الأعمدة والشرفات وعلقوا فيها القناديل وأوقدوها وقد تقدم التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله التمسح بالمصحف والمنبر والجدران . . . إلى غير ذلك إذ إن ذلك كان السبب في ابتداء عبادة الأصنام وزيادة الوقود فيه تشبه بعبدة النار في الظاهر وإن لم يعتقدوا ذلك لأن عبدة النار يوقدونها حتى إذا كانت في قوتها وشعشعتها اجتمعوا إليها بنية عبادتها وقد حث الشارع صلوات الله وسلامه على ترك تشبه المسلمين بفعل أهل الأديان الباطلة حتى في زيهم المختص بهم. وانضم على ذلك اجتماع كثير من النساء والرجال والولدان الصغار الذي يتنجس الجامع بفضلاتهم غالبا وكثرة اللغط واللغو الكثير مما هو أشد وأكثر وأعظم من ليلة السابع والعشرين من رجب وقد تقدم ما في ذلك من المفاسد وفي هذه الليلة أكثر وأشنع وأكبر وذلك بسبب زيادة الوقود فيها فانظر رحمنا الله وإياك إلى هذه البدع كيف يجر بعضها إلى بعض حتى ينتهي ذلك إلى المحرمات )) . ا . هـ كلامه.
هذا والله تعالى من وراء القصد وهو يهدي السبيل
التحميل من هذا الرابط:
https://www.sahab.net/forums/index.php…